على ضفة من ضفاف الحياة، عن الرغبات والأمنيات والآمال والمشاريع المؤجلة

استمتعت مؤخراً بقراءة “ترميم الذاكرة"، السيرة الذاتية للدكتور حسن مدن، الذي غادر وطنه البحرين في بداية العشرينات من العمر، وعاد إليها بعد ربع قرن وهو في بداية الخمسينات.  
يحكي في كتابه الجميل حياته بين عدد من المدن حول العالم، وهو من كتب “منشورات تكوين"، دار النشر التي تميزت بإصداراتها الرائعة.
استوقفني الفصل الأخير من كتابه، وهو نص بديع وجدت أنه يستحق المشاركة. إذا استمعتم به، أرجو أن تشتروا الكتاب، فقد سرقت هذا الفصل من الكتاب بدون إذن، فهو نص أجمل من أن يبقى مجهولاً.


المصائر الصعبة للبشر تحمل على التفكير في الوجه المعقَّد للمشاعر الإنسانية، بما فيها تلك المتصلة بعاطفة الحب.

في مكانٍ ما يقول «أوسكار وايلد» ما معناه: «ثمة مصيبتان، الأولى هي ألَّا نحصل على الأشياء التي نريدها، والثانية أن نحصل على هذه الأشياء»! والإنسان -بين أشياء كثيرة أخرى- هو مجموعة من الرغبات والآمال والأمنيات والمشاريع المؤجَّلة، دائمًا ثمة أمور نريدها وأشياء نشتهي امتلاكها، وحياتنا ليست إلا مسعًى دائمًا لتحقيق هذه الرغبات التي غالبًا ما تتناسل عن رغبات أخرى، ولأن «ليس كلُّ ما يتمنى المرء يدركه» فإن معاناة حقيقية تنشأ من عجزنا في تحقيق كل ما نريد، والظفَر بكل تلك الرغبات التي تسكننا.

ثمّة أمر مستحيل دائمًا، هو نفسه الناجم عن تلك المسافة الأبدية بين الأمنية والواقع، وما إن تتحقق أمنيةٌ ما من أمنياتنا حتى تفسح مكانها لأمنيات أخرى وهكذا دواليك، لذا فإن «أوسكار وايلد» محقٌّ تمامًا في إشارته إلى المصيبة الأولى. بيد أنه محقٌّ أيضًا في إشارته إلى المصيبة الثانية الناشئة عن حصولنا على الأشياء التي نريدها؛ لأن قيمة الشيء المُشتهَى تتناقص، أو تفقد الكثير ما إن يصبح في متناول اليد، وهذه ليست خطيئة حين يتصل الأمر بالرغبات النبيلة التي بها تسمو النفس والروح، وهي من بابٍ أولى ليست خطيئة حين يتصل الأمر بمشاعر البشر وعواطفهم؛ لأن ثمة منطقة في دواخلنا تبقى في حالة توقٍ دائم، رغبة في الارتواء النفسي الذي وإن تحقق في لحظةٍ، فإنما ليولِّد حالات توقٍ لا يعرف التوقف لتكرار هذا الارتواء الجميل.

وضع جلال صادق العظم كتابًا صدر في السبعينيات عنوانه «الحبُّ والحب العُذري» حلَّل فيه نماذج من قصص الحب المعروفة في التراث العربي: قيس وليلى، جميل وبثينة وغيرها تحليلًا نفسيًّا عميقًا، ليؤكِّد خلاصة مفادها أن الحب العظيم قائم على الاستحالة، وأن طريق الحب محكومًا عليه سلفًا بألَّا ينتهي النهاية التقليدية. إنه حبٌّ في حالة توهُّج دائم يكتسبها من المسافة بين المحبين، من استحالة الظفَر النهائي من أحدهما بالآخر، ولعل هذا ما يفسِّر تلك النهايات التراجيدية لمعظم هذا النوع من القصص – الأساطير.

حصولنا على الشيء الذي نريده مصيبة، في رأي «أوسكار وايلد»؛ لأن الهالة التي كنا نحيطها به يوم كان مجرد أمنية أو رغبة تسقط. يصبح هذا الشيء عاديًّا ويدخل في اليوميِّ والاعتياديِّ والمألوف، ولهذا السبب تحديدًا ذهب المتصوفة إلى القول: «إن شدَّة القرب حجاب»؛ لأنك إزاء القريب من الأشخاص والأشياء ترى كل شيء عاديًّا. الدهشة بطبيعتها سريعة، أشبه بومضة برق، سرعان ما تتلاشى لصالح النظرة «الواقعية» التي تتعاطى مع الأمور بعقلانية ورزانة ورصانة تبدو في حالات كثيرة بغيضة وقاتلة. الشيء عندما يكون مجرد أمنية يبدو مثيرًا للفضول والدهشة لأننا لا نملكه، لأننا نريده، وإزاء ما نملك ليس ثمة فضول، لأننا نعرف عنه كل شيء.

تحمل العاطفة - في داخلها - النقائض. يمكن لها أن تبلغ أقصى درجات التوهُّج، لكنها عُرضة للعطب؛ لأن المرء عرضة لتحولات كثيرة في حياته. هل حدث أن عدت إلى كتاب قرأته منذ سنوات، فلم تجد فيه الأشياء أو الأفكار التي أثارت لديك كبير اهتمام يوم قرأته أول مرة؟ أو أن استمعت -بعد سنوات- إلى أغنيةٍ فلم تجد فيها المتعة التي كانت تبعثها في نفسك؟ أو هل حدث أن عدت إلى مكان، إلى مدينة مثلًا رأيتها في سنوات الصِّبا، فلم تجد فيها الألفة أو الحميمية التي لمستها أول مرة.

أكثر من ذلك، هل حدث أن التقيت شخصًا كنت تعرفه حق المعرفة، وكان بينك وبينه الكثير من الود والأفكار والآراء المشتركة. لكنك وجدته بعد انقضاء فترة قد تكون وقد تكون قصيرة أنك إزاء شخص آخر تمامًا غير ذلك الذي عرفته وربما تكون قد أحببته أيضًا؟

من ذا الذي تغيَّر، أنت أم الأشياء أم الأشخاص الذين تلتقيهم أو تراهم بعد طول غياب؟ هل حقًّا كان الكتاب أكثر متعة والأغنية أكثر شدوًا والمكان السابق الذي ألفته أكثر ألفة والصديق القديم، أو الحبيب، أكثر قربًا من النفس وأكثر دفئًا، أم أن كل شيء قد تغير وتبدَّل فلم تعد تجد المتع السابقة أو تحياها أو تشعر بها؟!

الأشياء والأماكن والأشخاص الذين كنت تعرفهم هُمْ همْ، ما زالوا أنفسهم، وأن التغيرات العميقة إنما طرأت عليك أنت تحديدًا، فلعلك أصبحت أكثر نضجًا ومعرفة ووعيًا بحيث أنَّ ما كان يَبهَرك في السابق لم يعد كذلك، فصرت تتطلع إلى أشياء أكثر إبهارًا وإثارة للدهشة وإلى أشخاص تظنهم أكثر قربًا إلى روحك؟

إننا أكثر قدرة على مراقبة ما نحن فيه من حال؛ لأن هذا الحال هو ما يحدِّد نظرتنا إلى الأشياء والأشخاص. حتى الطريق اليومي الذي تقطعه كل يوم من بيتك إلى عملك أو بالعكس، رغم أنه لا يتغير، وأنه ثابت بمعالمه الرئيسية، فإنك قد تلاحظ ذات صباح جميل صحوتَ فيه في مزاجٍ رائق أن الشارع أجمل من المعتاد، وقد تلتفت إلى شجرة فيه، كانت موجودة دائمًا، لكنك لم تلحظها إلا في ذلك اليوم الجميل.. وعلى العكس قد يبدو لك الشارع متجهِّمًا؛ لأن عيونك تبالغ في رؤية الأمور بمنظور سوداوي انعكاسًا لمزاجك السيئ ذلك اليوم.

العالم الروحي للإنسان وإن بدا صغيرًا، فإنه أشبه بقارَّة كاملة، فيه كل التبدُّلات والتحولات والنقلات من حال إلى حال، وإذ نكبر تكبر معنا رؤانا وتنضج طريقة تعبيرنا عن عواطفنا ومشاعرنا، وشكل تعاطينا مع الأشياء.

في فقرة تحت عنوان «يجب تعلُّم الحب» للفيلسوف الألماني «نيتشه» يشبِّه فيها الحب بالموسيقى: علينا أن نتعوَّد في البدء أن نسمع مجازًا، لحنًا نميِّزه بالسمع، وأن نفرزه وأن نعزله، وأن نحدِّد بصفته حيادًا لذاته، ثم علينا فيما بعد أن نقوم عن طيب خاطر بالجهد لتحمُّله بالرغم من غرابته، وأن نستخدم الصبر لنقبل هيئته وتعبيره الجسماني والشفقة لنسامح فرادته، وتأتي أخيرًا اللحظة التي نكون فيها قد اعتدنا عليه، والتي ننتظره فيها والتي نشعر فيها أنه ينقصنا إذا غاب عنا، مذ ذاك الحين يستمر في ممارسة قهره وسحره علينا ولا يتوقف إلا إذا أصبحنا من عشاقه المتواضعين، من مخلصيه المسلوبين الذين لا يطلبون من العالم أكثر من شيء سواه. هو أيضًا ودائمًا هو».

هذه الطريقة تعلِّمنا أن نحب كل ما نحبه، إن إرادتنا الطيبة، صبرنا، عدالتنا، لطفنا مع الأشياء الجديدة علينا تنتهي بأن ترجع إلينا؛ لأن الغرابة تخلع شيئًا فشيئًا سِترها لنا وتظهر لعيوننا جمالها الذي لا يوصف. الحب أيضًا يجب أن يلقن.

يعتقد «نيتشه» أن كلمة الحب تدلُّ في الواقع على شيئين مختلفين بالنسبة إلى الرجل وبالنسبة إلى المرأة، وفي رأيه أن من شروط الحب عند الجنسين ألَّا يفترض الواحد الشعور عينه عند الآخر، ألَّا يفترض نفس فكرة «الحب» الخاصة به، إذ ما تفهمه المرأة بالحب أمر واضح بما فيه الكفاية. إنه ليس مجرد التفاني، إنه هبة كُلية للجسد والروح من دون أي شرط، دون أخذ أي شيء آخر بعين الاعتبار، فهي تخاف وتحمرُّ خجلًا لفكرة التخلِّي بشرط، لتخلٍّ مرتبط بشروط، إن غياب الشروط هو ما يجعل من حبها الإيمان الوحيد الذي تملكه.

أما الرجل فإذا أحبَّ المرأة، فإن هذا هو الحب الذي يريده منها، وبكلمات «نيتشه» نفسه: «إن رجلًا يحب كالمرأة يصير مِنْ هنا بالذات عبدًا، بينما المرأة إذا أحبَّت كامرأة فإنها تصير بذلك امرأة أشدَّ كمالًا». تريد المرأة أنْ تُؤخذ، تريد أن تذوب في فكرة الملكيّة لأنها لأنها تفترض أن الرجل يأخذ، إنه لا يعطي نفسه، ولكنه يريد على العكس من ذلك أن يغني أناه بالحب ويتكاثر بالقوة، إنه يفهم الحب على أساس أن المرأة تمنح نفسها وهو -بصفته رجلًا- يزداد بها.

يعتبر «نيتشه» أن الإخلاص جزء من الحب الأنثوي، ينتج من تعريف الحب نفسه، ويمكن أن يولد بسهولة عند الرجل على إثر الحب كنوعٍ من الاعتراف بالجميل أو من فطرة ذوقه وكنوعٍ من التلاؤم الانتقائي الذي قد لا ينتمي إلى ماهية الحب، ويمكن للشاكيات من طغيان النظرة الذكوريّة عند الرجل أن يجدن في الكلام التالي لـ«نيتشه» ما يروق لهن: «حب الرجل هو رغبة بالامتلاك وليس تخليًا أو تنازلًا. ونادرًا ما يعترف الرجل وبشكل متأخِّر بهذه الملكية، ذلك بأنَّ تعطشه الدقيق والأشد شكًّا في التملُّك هو الذي يجعل حبه مستمرًّا، ويمكن له أن يستمر حتى بعد تخلِّي المرأة المكتمل، فالرجل لا يقبل بسهولة أنه لم يبقَ للمرأة شيء تتخلَّى عنه».

منذ سنوات مضت كنت في زاوية مقهى أحد الفنادق بباريس، وفي الزاوية المقابلة تمامًا رجل وامرأة وجهًا لوجه على الطاولة. الرجل أقرب إلى الشيخوخة منه إلى الكهولة، أما المرأة فقد بدت أصغر سنًّا منه تمامًا كما يقتضي الأمر في أغلب الحالات. في البدء كنت مشغولًا بتناول غدائي ولم أتنبه إلَّا بعد حين إلى أن صوت الرجل كان عاليًا، أما صوت المرأة، وهي تقاطعه بين الحين والآخر أو ترد عليه -أو هكذا تراءى لي- فكان أميل إلى الخفوت.

حين تجهل اللغة، عليك أن تخمِّن فقط عمَّ يدور الحديث. لقد قرأت وسمعت أن اللغة الفرنسية من أرقِّ اللغات في العالم، إنها لغة للحب والشِعر، ولكن صوت الرجل مع ذك بدا عاليًا، يبدو أنه حتى بالفرنسية يمكن أن يكون الصوت عاليًا، وهناك كما هنا يبدو صوت الرجال أعلى جرسًا من صوت النساء.

«من راقب الناس مات همًّا»، ولكنني لم أكن أتعمَّد المراقبة، إن كون الرجل والمرأة في الزاوية المقابلة لك تمامًا يحملك حملًا على أن ترى أو تسمع، لم أفهم ماذا يقولان، لكن بينما الرجل في غمرة اندفاعه بالحديث بصوت عالٍ مدَّت المرأة إليه يدها. لقد تركت يدها «لتنام كالعصفور بين يديه»، أمسك الرجل بيد المرأة وقبئَلها، تمامًا كما يفعل رجال تلك البلدان مع أيادي النساء. اختلط عليَّ الأمر فإذا كانت الأمور بكل هذه الحميمية فلمَ الصوت العالي إذن في الحديث؟!

لم يُطِل الرجل في إمساكه بيد المرأة، فسرعان ما حرَّر يده من يدها وعاد إلى كامل الاسترخاء في كرسيِّه. برهة من الصمت ثم كلمات أخرى، وبصوت عالٍ. ماذا تراه يقول: هل يعاتب المرأة؟ هل يقرِّعها بكلام جارح؟ لماذا حرَّر يده من يدها وعاد بظهره إلى ظهر الكرسي؟! وفعل ذلك في الوقت الذي راحت الدموع تنهمر على خدي المرأة.

هل للدموع لغة.. يبدو أن الدموع هي في الأصل لغة، وإلَّا لَمَا كانوا تحدثوا عن دموعٍ للحزن وأخرى للفرح. ولكن بينما دموع المرأة تنهمر كان الرجل متماسكًا وشادًّا بظهره على الكرسي، كدتُ أقول يا لقسوة الرجال! لولا أنه ما إن نطق بكلماته التالية بعد بكاء المرأة حتى بدا صوته متهدِّجًا وظننت، أو تيقَّنت، من أنه هو الآخر كان يغالب دموعه التي احتقنت بها مقلتاه.

الرجل والمرأة اللذان لم يكترثا بوجودي أصلًا، وتصرَّفا كما لو أنني لست موجودًا، ربما لأنهما خمَّنا أنني لا أعرف اللغة التي يتحدثان أو يتعاتبان بها، جمعا أغراضهما ودفعا إلى الجرسون الفاتورة وابتسما له بكل رفق وأدب، وانصرفا تاركين وراءهما المقعد مليئًا بالكلام.

يحدث أنْ ينشأ تجاور شديد بين الفكرة ونقيضها، يُذكِّر بالخيط الرفيع الذي «يفصل» بينهما ولكنه لشدة ما هو رفيع لا يكاد يُرى بالعين المجرَّدة، ويظهر ذلك بشكل أكثر وضوحًا في النفس البشرية التي تبدو أشدَّ تعقيدًا من النسيج الاجتماعي، ولكن الفارق المهم في حال النفس البشرية هو أن الإنسان يبدو -إلى حدود ما- سيِّد نفسه حتى لو لم يدرك هذا التداخل الشديد بين المشاعر والمفاهيم المتناقضة التي تتعايش في ذهنه، أو في عقله الباطن بشكلٍ أخصَّ.

ومن أمثلة ذلك صعوبة إقامة الدليل أو البرهان على أن ما نعدُّه حبًّا لشخصٍ ما هو في الحقيقة مجرد مشاعر صادقة مجردة خالية من تلك النزعة القوية الراسخة في النفس البشرية بالرغبة في تملُّك هذا الشخص والاستحواذ عليه. نحن في التحليل الأخير غير قادرين على تبيُّن ذلك الخيط الرفيع بين الأنانية وحب التملُّك كقيمة سلبية وبين العاطفة الصادقة كقيمة إيجابية، رغم أننا نعلم أن هذه الأخيرة تتطلَّب القدرة على التضحية، من حيث هي قرين للخسارة أو حتى الفقدان، ولكن الملكات الإنسانية الإيجابية بما فيها تلك المستندة إلى مخزون العقل الباطن تتطلَّب من أجل ترشيدها وتنقيتها ممَّا هو راسخ فيها من شوائب وعُقد تدريبًا طويلًا تصقله الخبرة ونضج التجربة.

تصوَّر نفسك وقد جمعتك المصادفة مع شخص لا تعرفه يجلس إلى جوارك في مكان عام، فشعرت بأن ثمّة شيئًا ما يثير فضولك في هذا الشخص، ولكنك لياقةً لا تستطيع أن تحدِّق إلى وجهه أو تطيل النظر إليه، مُكثرًا من الالتفاف إلى الجهة التي يجلس فيها أو يقف؛ لأن ذلك قد يُفسَّر على أنه نوع من التطفُّل، ولكنك بين الحين والآخر لا تملك إلا أن تراوغ بعينيك نحوه، منتظرًا لحظات غفلته، لعلك تبصر فيه شيئًا يُشبع فضولك في حركة أشبه بفعل التلصُّص، وقد تنشأ لديك رغبة آسرة لا تقاوم في أن تتحدث إلى هذا الشخص أو الاقتراب منه، لكن المناسبة التي جمعتك وإياه سرعان ما تنفضُّ ويذهب هو إلى حال سبيله قبل أن تتمكَّن من مبادرته بكلمة أو سؤال أو لفتة. يُذكِّر ذلك بمقال لـ«غابرييل غارثيا ماركيز» عن صدفة جمعته مرّةً في طائرة تقطع رحلة بين نيويورك وباريس مع شابة في أوائل العشرينيات من عمرها، صدف أن جلستْ على المقعد المجاور له، فكان أن تهيَّأ لحوار ممتع مع فتاة جميلة على علوِّ عشرين ألف قدم فوق المحيط الأطلسي ولمدة خمس ساعات هي زمن الرحلة، ولكن لدهشته فإن الفتاة وضعت أغراضها بعناية دون أن تلتفت إليه أو تتحدث، وأخرجت من حقيبتها قرصين ابتلعتهما بسرعة، ووضعت الوسادة في فجوة عند نافذة الطائرة وتدثرت بالغطاء قبل أن ترجو من المضيفة عدم إيقاظها مهما كان الأمر، واستغرقت على الفور في نوم عميق طوال ساعات الرحلة، مخيِّبة آمال الكاتب، كأنها بذلك تجيب عن السؤال الذي خطر على باله عندما رآها أول مرة: «هذا التجاور اللامتوقع إلى أيٍّ منا سيحمل التعاسة»؟! رغم أنه عوَّض عن الحوار بالتأمُّل فيها والتحديق إلى وجهها طوال الوقت مطمئنًّا إلى أنها لا تراه.

مرةً في رحلة نهرية في بلد آسيوي، ومنذ الهنيهات الأولى للرحلة استوقفني وجه امرأة. شيء آسر في ذلك الوجه لفت نظري. لم تكن المرأة آبهة بما يدور، ولا تدري أصلًا إنْ كانت موضع اهتمام خفيٍّ من رجل راح يسترِق النظرات إليها متحيِّنًا اللحظات التي تكون هي فيها شاردة أو ساهمة في تفكير عميق، متحاشيًا أن تقع عيناه على عينيها. لم أكن راغبًا -أصلًا- في أنْ تلاحظ أنني معنيٌّ بالنظر إليها، أو أن ثمة أمرًا آسرًا في وجهها يشدُّني، فما إن تلتفت إلى جهتي بمحض المصادفة الصِّرف أو الحركة العفوية حتى أسارع إلى إبعاد عينيَّ عن وجهها والتظاهر بالتحديق إلى حركة النهر من حولي أو بالنظر إلى جريدة بين يديَّ. بيني وبين نفسي كنت منشغلًا بالتفكير في سر انشدادي إلى وجهها، ولم أكن راغبًا في لفت نظرها إليَّ، ولا التقدم نحوها لسؤالها عن اسمها مثلًا أو من أيِّ بلد أتت.

لم تكن الوحيدة من النساء في المركب وليست الأجمل، وكانت هادئة في ركنها تفكر في أمرٍ ما أو في أمورٍ عِدة دفعةً واحدة، أو أنها ببساطة لا تفكر في شيء، تكتفي بأن تترك وجهها للشمس وهواء النهر، وحين اشتدت الشمس وضعت على عينيها نظارة شمسية سوداء. لم تغيِّر النظارة شيئًا من الأمر، لم أعُد أرى عينيها اللتين توارتا خلف الزجاج الداكن للنظارتين، لكن سحر الوجه ظل يشدني، لم أقوَ على تنفيذ رغبتي في أن أنصرف إلى أمر آخر أو أفكر في أمر آخر، وأُمتع ناظري بالمشاهد الخلابة على ضفتيِّ النهر. مرَّت ساعات، المركب يمخر العباب، وركاب النهر في أمزجة مختلفة، بعضهم أخذه المرح، وبعضهم راح يتأمل فيما حوله بهدوء، وراح آخرون يتجاذبون الحديث أو يتبادلون الطرائف والنكت.

مضى الظهر وأخذت الشمس في الانكسار التدريجي، بدت الشمس هادئة وحنونًا وهي تحثُّ الخطى نحو مغربها، ولم يبقَ من الرحلة إلا زمن قليل. فجأة -ومن دون مقدِّمات- لمعت في ذهني الفكرة الومضة، لو أنني تمتعت بقدر من الجنون لهتفت: «لقد وجدتها! لقد وجدت السبب»: ليست هذه المرأة تحديدًا هي مَنْ شدتني. لقد أسرتني منذ الهنيهات الأولى؛ لأن ملامح وجهها تحمل ملامح وجه امرأة أخرى مستقرة في الذاكرة. ولم أستطع أن أواري خجلي من نفسي لكوني احتجت كل هذه الساعات لأعرف السبب.

فكرة التجاور هذه هي أشمل وأوسع مدًى من مثل هذه التجاورات العابرة أو السريعة أو الخاطفة؛ لأننا في الحقيقة نقع كلَّ يوم داخل منطقة التجاور هذه، في البيت وفي العمل وفي الأماكن التي نرتادها بانتظام وحتى بغير انتظام. دائمًا ثمة شخص أو أشخاص نجاورهم، هم بالقرب منا في المكان نفسه أو في المكان المجاور. قلةٌ من هؤلاء لنا يد في اختيارهم، وكثرةٌ لسنا مَنْ يحدد أمر جيرتهم، ولذا فإننا نكتفي بهذه الجيرة غير راغبين في تحويلها إلى تقابل.

لكن المحيِّر هو أن علاقات التقابل في المحيط الضيِّق الحميم، من حيث هي جلوس وجهًا لوجه أمام الشخص الذي نودُّ، والنظر إلى عينيه وملامح وجهه وقراءة ما تنطوي عليه مِن تعبيرات، والتماهي مع الإشعاع المنبثق من هذا التقابل، ليس بمعنى المواجهة وإنما بمعنى ذلك الانخطاف الروحي للشخص المعني - غالبًا - أو كثيرًا ما تنحدر إلى مستوى التجاور على النحو الذي أومأ إليه «ألبير كامو» في إحدى رواياته حين قال على لسان أحد شخوصه: «نحن متجاورون نعم.. لكن من النادر أن نتقابل»!

يشكو الناس دائمًا من الرتابة، ويتطلعون دائمًا إلى ما هو جديد ومدهش وكاسر للعادة. لكن كاتبًا مثل «ميلان كونديرا» يقول في مكانٍ ما: «إنّ السعادة هي التكرار». وقد يبدو هذا القول مستهجنًا بعض الشيء كونه يأتي من كاتب تذهب معظم رواياته إلى هجاء «قوة العادة» والرغبة القوية في التحرر مِن أسرها. ولكن هذا القول يمكن أن يُقرأ من زاوية أخرى، هي زاوية «الألفة» مع الأشخاص والأشياء والعادات، التي تكتسب مع الوقت طابع التكرار.

ثمّة صداقة عميقة تتكون لدينا إزاء هذه الأمور، وفي اليوم الذي نخالف فيه مجرى هذه العادات، الأشبه ما تكون بطقوس، نشعر أن ثمة شيئًا اختلَّ في نظام حياتنا. إن الأمر أحيانًا يتصل بما يبدو في الظاهر ثانويًّا أو شكليًّا كشرب القهوة مثلًا في موعدٍ معيَّن كلَّ صباح، أو مطالعة الجريدة المفضلة أو مشاهدة حلقة المسلسل التلفزيوني اليومي، أو الاستغراق في قراءة رواية والتعلُّق بمن فيها من شخوص.

إلا أن أكثر أنواع الألفة قوةً هي تلك التي تنشأ بين البشر. ثمة أناس لديهم جاذبية خاصة بحيث أنك تألفهم بسرعة، تألف حضورهم وتواصلك معهم، وأنت لا تستطيع أن تحدِّد على وجه الدقة ما هي طبيعة المشاعر التي تشدك إليهم، إنها مشاعر غامضة أو متدثرة برداء شفيف، ولا تستطيع أن تختبر عمق هذه الألفة أو مداها إلا عندما يحدث ما يعكِّرها، فينتابك الشعور بأن شيئًا ما قد اختل، أو أن أمرًا ما أصبح ناقصًا، وأن الأمور لا تستقيم إلا باستعادته.

هذا النوع من الألفة هو نفسه السعادة الناشئة عن التكرار.

لا يتنبَّه الإنسان إلى قوة عاداته وسطوتها، إلا في اللحظة التي يختل فيها نظام هذه العادات. وهذه الأخيرة من الاتساع بحيث تشمل العادات اليومية المكررة، كالمواعيد الثابتة للأكل والنوم والاستيقاظ، مثلما تشمل ما هو أعمق من ذلك بكثير كأسلوب التفكير وطريقة التصرُّف إزاء الأمور.

العادة، أو مألوف التصرف مريح أو غير متعب ولا يتطلب جهدًا؛ لأنه يشبه إلى حدٍّ كبير الأداء الآلي. الكاتب الايطالي «ألبرتو مورافيا» كتب في «الاحتقار» -إحدى رواياته المعروفة- كلامًا مهمًّا عمَّا دعاه بالآلية التي تتيح لنا أن نعيش بلا تعب يتجاوز الحد؛ لأننا إذ نقوم بالأمور الاعتيادية وبصورة روتينية فإننا غالبًا ما نفعل ذلك دون تفكير أو لا نكون واعين بما نفعل. «إن خطوة واحدة -يقول مورافيا- تتطلب تشغيل كمية من العضلات، ومع ذلك فنحن نقوم بها من غير أن نعي ذلك، بفضل الآلية».

لا يبدأ المرء في حساب خطواته إلَّا في اللحظة التي يعي فيها هذه الخطوات، في اللحظة التي تكفُّ فيها الآلية السابقة عن الدوران، فتجد أن الكثير من الأشياء التي كنت تقوم بها بطيب خاطر تستوقفك وتسترعي انتباهك وتثير في ذهنك الأسئلة عن مغزاها، وتَمثُل تفاصيلها أمام ناظريك فتستأثر بتفكيرك، وربما حمَلَتك على التساؤل كيف كنت تفعل كل هذه الأشياء سابقًا دون أن يستوقفك السؤال عن سر القدرة في قيامك بكل ذلك دون أن تشعر بأنك تبذل جهدًا.

ما أكثرَ ما تضع الحياة الناس في ذلك الحال من الاقتران الوجداني والنفسي والروحي ببشر آخرين، يجدون في الحديث عنهم حديثًا عن أنفسهم، حين تصبح الحياة مشتركة، وكذلك التفاصيل واليوميات والأفكار والهواجس، فيصعب على المرء، إنْ لم يستحِل أن يتحدث عن هذا الشخص «الآخر»، دون الحديث عن نفسه والعكس صحيح، لأنه يدرك في العمق أن الحديث عن ذاته لا يستقيم دون الحديث عن الآخر القرين.

على ضفة من ضفاف الحياة، قد نصلها وقد لا نصلها إذا ما قررت الدنيا مناكدتنا، يقف ذلك الآخر الذي هو مُعطًى لنا، أو يجب أن يكون كذلك -الذي عبره نكتشف أنفسنا- نعرف بفضله تلك الكوامن المخبَّأة داخلنا فيجعل لهذه الحياة مغزًى. طوبى لمن بلغ الضفة الأخرى التي يقف عليها هذا الآخر.

في داخل كل إنسان منطقة مجهولة حتى بالنسبة إليه هو نفسه، إذا ما استثنينا حالات النرجسية المَرَضيَّة عند البعض التي تجعلهم يعطون تقييمات أعلى ممَّا هي في الحقيقة عن أنفسهم، فإن الناس قد تعيش العمر كله دون أن تكتشف تلك المنطقة المجهولة في دواخلها وتبلغ تلك الضفة، وقد يحدث أن نكتشف هذه المنطقة بمحض المصادفة وحدها، وحين يحدث ألَّا تأتي هذه المصادفة فإننا نموت دون أن نعرف أنَّ طاقة معيَّنة ظلت معطَّلة فينا.

هناك أناس يولدون ويكبرون ويتعلمون ويتزوجون ويخلِّفون أبناء وبناتًا ويؤدون كل المهام الضرورية في الحياة، ولكنهم قد يظلون يجهلون عاطفة مثل عاطفة الحب، ليس لأنه لا توجد لديهم قابلية لأن يحبوا، أو أن مشاعرهم ميتة، وإنما بسبب أنهم لم يلتقوا في حياتهم الشخص الذي ما إن يقابلوه حتى يصيبهم شيء أشبه بالمسِّ، بالجنون، بالزلزال، فتتحرك المشاعر في دواخلهم كما تتحرك تيارات المياه في أعماق المحيطات والأنهار محدِثة دوَّامات كفيلة بأن تقلب قاع البحر أو النهر.

يحدث أننا نقع في الحب أكثر من مرة في حياتنا. ويتراءى لنا أننا أحببنا وأنّ عواطفنا قد هاجت وماجت، لكن يحدث أيضًا أن يأتي بعد كل هذه المرَّات حبٌّ آخر، عاصف، مجنون يحرك كل ذرة فينا، فنشعر بأن شيئًا أشبه بالانقلاب يجتاح حياتنا، حينها ندرك أن ما كنا ظنناه حبًّا قبل هذه التجربة كان أقلَّ من ذلك، وإذا كان حبًّا فإنه كان ناقصًا غير مكتمل، وقف عند حدود معيَّنة، ولم يذهب إلى العمق الذي أدركنا أن الوصول إليه ممكن بفضل هذا الحب - الإعصار الذي جاءنا متأخِّرًا. كأن ما مضى لم يكن أكثر من «بروفات» للحب العظيم الذي لم نكن نعلم أنه قابع في الغيب.

لماذا يُحدث هذا الحب إعصارًا في دواخلنا، ويدوِّخ رأسنا ويجعلنا نفاجأ بأنفسنا، وبأننا قادرون على أن نحب بهذا الجنون؟!

ما يحدث حقيقة هو أن هذا الحب يُزيح الدِّثار عن تلك المنطقة المجهولة في دواخلنا، يجتاحها ويتغلغل فيها حتى يلامس العصب. ساعتها قد نقول بيننا وبين أنفسنا أو للشخص الذي فجَّر لدينا هذا الإحساس الجميل: لم أكن أصدِّق أنني قادر على أن أحب بهذا الجنون، أو نقول: كنت أظن أن قلبي قد تبلَّد وأنني لم أعد قادرًا على أن أحبَّ أحدًا آخر. المنطقة المجهولة في دواخلنا، تلك الغابة العذريَّة التي لم تطأها أقدام الحطَّابين قبل ذاك. المنطقة التي لا نعرف حتى نحن أنفسنا أنها ساكنة في داخلنا قبل أن يأتي ذلك الحب العظيم فيدخلها فاتحًا. ساعتها نولد من جديد. تنشأ لنا حياة أخرى جديدة، كأننا نعرف ذواتنا أول مرَّة.


حين نريد أن نواسي أحدًا يعاني آلامَ الفقد على أنواعه أو الخيبة أو الهجر نقول له: لا عليك، الزمن كفيل بأن ينسيك. سيأتي يوم وتنسى فيه كلَّ شيء ولن تشعر بالألم. لكن هل فكرنا حقيقةً في السؤال الذي يقول: هل بإمكان الإنسان أن ينسى، خاصةً حين يتصل الأمر بوقائع وأشخاص استحوذوا على تفاصيل حياته في وقت من الأوقات؟!

إننا لا ننسى أبدًا. صحيحٌ أنَّ الألم الناجم عن الفقد والخسارة يتناقص بالتدريج، لكن الشخص نفسه لا ينسى، الواقعة نفسها لا يُمكن أن تُنسى. إن الذي يحدث بالضبط هو أن الأمور تتوارى إلى منطقة خلفية في ذاكرتنا، أو تتدثر برداء كي لا تُرى، لكنها لا تغادر هذه الذاكرة أبدًا.. إنها بتوصيف أدقَّ تغفو إغفاءة المسافر، فما تكاد تسمع طرْقًا خفيفًا حتى تصحو وتستيقظ نشيطة.

نحن لا ننسى، إنما نتظاهر بالنسيان. إن رغبة مُلِّحة، مُعذِّبة تنتابنا في التحرر من الألم الناجم عن الشعور بالفقد، مثلًا هي التي تحملنا على السَّعي لإقصاء الأمر من الحضور اليومي في أذهاننا، الحضور الدائم. وربما ينجح بعضنا بعد حين من الوقت، بعد طول تدريب مِنْ أن يفعل ذلك، لكنه لا يكون بذلك قد نسي، إن كل ما فعله هو أنه وضع الأمر داخل خانة صغيرة من خانات الذاكرة وأغلق عليه الباب حتى يحصر نطاق الألم الناجم عن ذلك، لكن هذه الخانات كثيرًا ما تنفتح من تلقاء نفسها، فنقوم ببذل جهد إضافيٍّ لإعادة إغلاقها.

النسيان هو ذاكرة أيضًا. إنه مثلها وسيلة للحفظ، نلجأ إليه وسيلة من وسائل الهروب من سطوة حضور الذاكرة، لكنها أشد مكرًا منا ومنه. إن ما يحدث هو أن الذاكرة الموارَبة أو المتوارية، أو المتدثرة برداء، أو القابعة في خانة أُغلق عليها الباب، تنبعث من جديد ما إن تنشط محفِّزات هذه الذاكرة، فنذهل لتلك اللحظة التي تستحوذ علينا فيها ذكرى وجوه وأماكن ووقائع خِلنا أننا قد نسيناها تمامًا، فإذا بها تعود بكمال وجلال تفاصيلها، لنكتشف أننا لم ننسَ وأن النسيان خديعة ابتكرناها كي نتغلَّب على الألم الناجم عن الفقد أو الخيبة أو الأذى.