القناعة كنز عظم، هل يهم إذا كانت بإرادتك، أم لأنك عجزت أن تستبد؟

عندما سأل ديريك سيفرز نفسه بصراحة “من هم أبطالي؟"، اكتشف أن معظمهم كتّاب ومؤلفون، وليسوا مبرمجين ورجال أعمال وقادة في مجاله. هذا الاكتشاف جعل المبرمج والمؤسس المعروف يقرر أن يتفرّغ للكتابة، ويعيد ترتيب أولوياته بحيث يصبح كاتباً معروفاً.
يرى سيفرز أن سؤال نفسك، وتحديد قائمة أبطالك ومن يلهمك، سيساعدك على اكتشاف مجال الاهتمام والعمل الذي يجب أن تقضي وقتك فيه، إذا كنت تشعر بالتشتت والضياع.
سألت نفسي نفس سؤال ديريك، وأنا أصغر منه في العمر، ولكن مشابهاً في مسيرة الحياة العملية، وفعلاً كانت معظم قائمة أبطالي مثل قائمته؛ كتّاب ومؤلفين. إلّا أن هذه الحقيقة لا أجدها مقنعة -بما يكفي- لكي أغادر مجالي، وأتفرّغ للكتابة، مثلما فعل.
أنا من الذين يؤمنون أن جمال وتنوع الحياة يسمح للمرء أن يجمع في الوقت ذاته بين مجال عمل ومجال اهتمام مختلفين، ولا بأس أن تختلف هذه المجالات بمقتضى مراحل العمر. يمكن للمرء أن يعمل في حرفة ومجال معين، يتقدّم فيه وينجح، ويكون مصدر دخله الأساسي، ويمارس في ذات الوقت الإبداع والهواية في مجال مختلف تماماً، ويتقدّم فيه كذلك وينجح.
نعيش مع عوائل وأقارب وأصدقاء ومجتمع، نتأثر بعوامل لا تُحصى من حولنا، ونتقدم في مراحل العمر، ومن الطبيعي أن ننمو ونتأثر ونتغير في العقلية والمهارات والمشاعر، والمجال الذي يجذبنا ونجد أنفسنا فيه في مرحلة معينة، لا يجذبنا ربما في مرحلة وظروف أخرى، وإنّما يتقدم عليه مجال آخر نجد أنفسنا فيه، وهكذا. لسنا روبوتات في مصنع، نعمل على خط إنتاج واحد لعقود لا نحود عنه لحظة.
أهمية التفريق بين مجال الرزق ومجال الاهتمام
هناك فرق واضح عندي بين مجال عملي وحرفتي ومصدر رزقي، ومجال اهتمامي وفضولي وهوايتي، ولا أحاول أن أخلط بينهما، لأن أهدافي من كل مجال تختلف تماماً عن أهدافي في المجال الآخر.
مجال العمل والرزق هو الأساس، وأهدافي فيه تستولي على معظم تركيزي، ومجال الاهتمام هو المجال الثانوي، وأهدافي التي أسعى لتحقيقها فيه هي الأهداف الثانوية التي تشعرني بالإنجاز، وسعيي خلف الأهداف الأولى لا تتأثر سلباً بسعيي خلف أهدافي المجال الثانوي.
تحقيق أهدافي العملية لا تعني في الغالب أنني سأحقق أهدافي الجانبية، والعكس صحيح؛ عالمين منفصلان أعيش فيهما.
متى يحصل التشتت والشعور بالضياع؟
الشعور بالتشتت والضياع يحصل برأيي عندما لا يكون لدى المرء تعريف واضح لمؤشر التقدم والنجاح في المجالين. تحصل عندما يضع لنفسه أهدافاً غير منطقية لكل مجال، فينتج ذلك ألا يحقق أيّ تقدم ملحوظ في المجالين، وبذلك يشعر بالفشل والتوهان.
في حالتي، هدفي كمؤسس في مجال العمل واضح تماماً، وهو بناء شركات ناجحة تنمو، أملك فيها حصصاً وعوائد مجزية.
وهدفي من القراءة يختلف حَسَبَ نوع الكتب؛ فمن قراءة السير الذاتية أسعى للاستمتاع بالاطلاع على تجارِب لأشخاص مؤثرين ربما مررت بمثلها، ومن قراءة الروايات أهدف للانغماس في عوالم وفضاءات إبداعية مدهشة تأخذني بعيداً عن ضغط العمل.
وهدفي من التدوين والكتابة هو المحافظة على عادة الكتابة وصقلها، والبوح والتعبير عن آرائي وأفكاري بطريقة إبداعية تتطور مع الوقت.
وهدفي من الذَّهاب إلى النادي الرياضي ثلاث مرات في الأسبوع هو المحافظة على جسد صحي، وكتلة عضلية مقبولة.
وضعي أهداف منطقية وغير مبالغ فيها في كل مجال، أؤمن أنه يمكنني تحقيقها تدريجيًا، يجعلني أستمتع وأشعر بالتقدّم.
لو وضعت أهداف أكبر وأعظم في كل مجال، ينبغي لي عليَّ إعادة حساباتي، والتفكير على نحو مختلف، وربما التركيز على مجال واحد.
فمثلاً، لو حددت رقماً مالياً ضخماً أعتبره مؤشر النجاح في الحياة العملية، وكنت بعيداً عنه، فيجب عليّ أن أتخلّى عن كل اهتمام في المجالات الأخرى، وأن أتفرّغ للسعي في تحقيقه.
وكذلك لو حمّلت اهتمامي بالقراءة ما لا يحتمل، ووضعت أهداف علمية وبحثية من وراءه، ففي الغالب يجب عليَّ أن أترك باقي الاهتمامات من أجل التركيز على القراءة وتحقيق أهدافي تلك منها.
أمّا لو قررت أن يكون هدفي من الكتابة هو تأليف كتب أو رواية تحصد جوائز، فيجب أن أتخلّى عن باقي الأهداف من أجل ذلك.
يحدث التشتت والضياع والفشل عندما تضع أهدافاً كبرى، يجب عليك التفرّغ التام لها، وفي الوقت نفسه توزّع تركيزك ووقتك في مجالات بعيدة عن مجال تلك الأهداف.
المراجعة الدورية والتغيير شيء جيد
كما ذكرت، أجد جمال الحياة في تنوع مجالاتها، وهذا يدفعني لتقبّل فكرة أنه ليس من الخطأ أو العيب أن أتنازل عندما أجد أنني لا أستطيع التواجد في مجالين في نفس الوقت، بالشكل الذي يشعرني بالنضج والتقدّم.
ربما أترك مجال تأسيس الأعمال بعد قضاء سنوات طويلة فيه لأنني اكتفيت، ويصبح العمل الاستشاري أو الاستثماري هو مجال عملي، وفي الوقت نفسه استمر في مجالات القراءة والتدوين والكتابة. وربما استمر في مجالي العملي كمؤسس، ولكن أتوقف عن التدوين والقراءة، واتجه إلى مجال إبداعي جديد.
حالياً أنا مرتاح جداً في التوفيق بين مجال عملي ومجال اهتماماتي، ولا أفكر بالتغيير، ولكن سأكون متصالحاً مع نفسي لو وجدت أنني أحتاج إلى ذلك يوماً لسبب ما.
الأهداف المنطقية ترسّخ كنز القناعة
القناعة شيء عظيم، وهي من الأسرار الكبرى للسعادة في هذه الحياة، وأشعر أنني شخص قنوع ولله الحمد. ووصلت لهذا الشعور بعد مكاشفة وسؤال نفسي واعترافي أمامها، كيف أصبحت قنوعاً؟ بعد أن كان هدفي يوماً مثل أقراني تغيير العالم؟
تقول العرب “إنّما العاجز من لا يستبد”، فإمّا أن أكون اليوم قنوعاً لأن فشلي في بعض التجارب تسبب في تلاشي بعض الأحلام، وبعدها اعترفت بمحدودية قدراتي وتصالحت معها، ثم أصبحت قنوعاً بما بين يدي من نعم، وبما تبقّى من أهداف أرنو إليها.
أو أن أكون أصبحت قنوعاً بإرادتي الأصيلة؛ وجدت الحياة جميلة، فقررت أن أتخلّى عن مجالات وأهداف كبرى اكتشفت أنها كانت ستسرق حياتي، وليست مضمونة النجاح، وفضّلت أن أعوّض ذلك بتنويع مشاربي في هذه الحياة، وأوزع أوقاتي بين بساتين مجالات مختلفة.
وعندما أراجع وأتأمل النظر في مسيرة حياتي، أجد أن شعوري بالقناعة المطلقة اليوم هو نتيجة الأمرين سوياً، بعضها بسبب أنني عجزت أن أستبد بعدما حاولت، وبعضها بسبب مبادئي ونظرتي نحو الحياة، كما زرعتها داخلي منذ نشأتي والدتي أطال الله في عمرها.