إنه فخ! عن الحضور عبر الإعلام وفي المشهد العام
تلقيت اليوم اتصال من قناة إخبارية يطلبون استضافتي للحوار حول موضوع تغريدة كتبتها قبل أمس. يرى فريق إعداد القناة مشكوراً أن الحوار معي حول موضوع إيلون ماسك يستحق نصف ساعة من وقت جمهورهم العزيز! لا أعلم لماذا أجبت على الاتصال، فمن طقوسي النوفمبرية الكئيبة أن لا أرد على أي رقم مجهول. كنت في مطعمي المفضل، أنتظر وجبتي الكيتونية المعتادة والتي طال اعدادها اليوم على غير المعتاد، فبادرت بالرد على الاتصال. بالطبع اعتذرت عن المشاركة لأنني مستمتع منذ سنوات بالبعد عن أي ظهور إعلامي أو المشاركة في لقاء علني أو ملتقى، ولا أرغب في كسر عزلتي العامة هذه.
يمكن القول بأنني منذ 2001 وحتى 2012 كنت مدمن أخبار (News Junkie). بدأ الإدمان التصاعدي مع أحداث 11 سبتمبر، وبدأ يزول مع انبثاق سريان أنهار الدم غير المتوقعة في سوريا، والتي أثارت في داخلي الرعب من عالم السياسة والأخبار وكرهها. نقلت كامل تركيزي لمجال الأعمال والمشاريع الريادية مبتعداً عن الأخبار والسياسة بشكل تدريجي. تشافيت مع الوقت والعمل من متابعة أحداث العالم والإدلاء بآرائي العظيمة حولها، حتى توقفت بشكل شبه تام في حوالي 2015. هذا الانسحاب من الرغبة في معرفة ماذا يحصل حول العالم خارج سيطرتي ساعدني في التوقف عن الظهور منذ سنوات طويلة على القنوات التلفزيونية، والمؤتمرات، والملتقيات العامة. أصبحت أؤمن بضرورة وجود سبب منطقي ومهم يبرر للشخص أن يشارك في المحافل العامة والملتقيات ويظهر في الإعلام.
أرى أن هناك ثلاثة دوافع تقف خلف رغبة الشخص في الظهور الإعلامي وفي المنتديات والملتقيات العامة:
الحضور العام لتقديم الشخص نفسه كمتخصص وخبير في مجاله
يرى البعض أنه مطّلع وصاحب رأي ذو قيمة في مجال عمله أو اهتمامه، ويعتقد أن من حقه تقديم نفسه للجمهور حتى يتعرفون عليه وعلى عقليته وآراءه. ربما يكون كذلك، مطّلع ومتابع في مجاله ومتمكن فيه، ويحدث أحياناً أنه ببساطة قال لنفسه أن الذين يظهرون في الإعلام والمشهد العام ليسوا أفضل منه، فلماذا لا يبرز نفسه؟
يهدف من تسجيل حضوره العام كسب شهرة وجمهور وعلاقات جديدة تساعده في تحقيق أهداف شخصية مشروعة بالنسبة له. هذا النوع من المشاركات معظمه يدور حول التعليق على أخبار وأحداث في مجال تخصصه واهتمامه، كالتعليق على الأخبار والأحداث السياسية، الاقتصاد، التقنية، ريادة الأعمال، الرياضة وكرة القدم. يعلّق ويحلل ويسرد رأيه الشخصي والتوقعات. لا يشترط أن يكون قد مارس نشاط شخصي في تلك المجالات ولكنه يلعب دور المطّلع والمتابع لها والناقد. ليس كل معلق على الأخبار هو ممارس للسياسة، وليس كل محلل كرة قدم يكون قد مارس الاحتراف فيها.
يشكل الحضور في المشهد العام لغالب هؤلاء النقّاد والمعلقين مصدر دخل أو مدخل لعلاقات يستفيدون منها بشكل غير مباشر لتنمية مصادر دخل لهم. فالبقاء والظهور الإعلامي هي أمور أساسية في حياتهم وضرورة شخصية، يعطونها من وقتهم وتركيزهم، منشغلين بها لحساسيتها لديهم. هذه الشريحة لا تمانع ترديد خطابها وكلامها في كل ظهور، ولا تهتم حقيقة باحتمالية أن يصبح حضورهم باهت ومحروق بسبب كثرته. يواصلون ويثابرون على الظهور والبقاء في المشهد العام من أجل استمرار المكاسب الشخصية التي وجدوها.
الحضور العام لمشاركة الشخص خبراته وتجاربه مع الآخرين
يكون الشخص هنا هو الخبر والموضوع، قام بعمل أو مشروع ظهر للإعلام وتم تناوله بشكل واسع، فبالتالي يتم استضافته في الإعلام والمؤتمرات والملتقيات العامة للحديث عن مشروعه أو تجربته الشخصية هذه. إذا كان العمل/الإنجاز/المشروع إيجابي ويستحق مشاركة تفاصيله لأجل إفادة الجمهور والإلهام فهو أمر مقبول، بشرط أن لا يتكرر هذا الظهور وأن لا تتكرر معه سرد تفاصيل القصة الشخصية. مواصلة الظهور لأجل إعلام الناس كم أنت رائع ومكافح وناجح، هو تصرّف يقود لتبخيس نجاحك (إذا كان حقيقي)، وتزهيد للناس في قصتك مع الوقت بدون أن تشعر أو تقصد. أما إذا كانت قصة النجاح وهمية أو مبالغ فيها، وهدف الشخص من وراء الظهور هو الشهرة فقط وتحقيق مكاسب سريعة، فهناك احتمال كبير أن يكتشف الناس بعد مدة هزالة قصته، ويشككون في حضوره وطرحه المستقبلي.
الحضور العام لأجل التحشيد وجمع المناصرين
يبرز الشخص للمشهد العام، ويحرص على الحضور الإعلامي عبر الشبكات الاجتماعية والقنوات الإخبارية والبرامج والصحف والإذاعات لأجل الدفاع عن قضايا معينة يؤمن بها، يتدافع مع خصومه، ويبشّر بأفكار يعتنقها ويرى ضرورة انتشارها، سعياً لكسب جمهور ومناصرين حولها. الرغبة في تسجيل هذا الحضور العلني تسيطر على الشخص عندما يكون في مرحلة رسالية من عمره، تلك المرحلة التي يكون فيها مؤمناً بأن في مقدرته تغيير العالم. يكون مدفوع فكرياً بعقائد وأفكار يعتقد بأنها ستنقذ مجتمعه وربما العالم. يؤمن بأن من واجبه المشاركة بآرائه والانتصار لها. لا يوجد لديه شك بأنه على الحق وأن كل الآراء الأخرى خاطئة أو فيها نظر وتعتبر أقل قيمة من آرائه. كلما كانت آرائه حادة وصدامية، كلما كسب جمهوراً أكبر وازدادت شهرته، ومع الوقت يواصل الظهور لأجل مكاسب الجمهور والحضور، بغض النظر عن صحة القضايا التي يتبناها.
خطورة هذا الحضور كذلك هو أنه يكسب الشخص خصوماً وأعداءاً كثر مع الوقت، ويجعل تراجعه عن أفكاره فيه صعوبة كبيرة، فهي موثقة ويمكن الرجوع لها واستحضارها بسهولة من قبل خصومه. حتى لو تغيرت قناعاته مع الوقت، وتراجع عن آرائه السابقة، سيبقى هناك من يسترجع وينشر أطروحاته السابقة ويهاجمه بها، ولن يتوقف حتى يجعله يختفي من المشهد العام تماماً. تراجعه عن قناعاته لا يفيد ما دام يصر على تسجيل الحضور العام والمشاركة بآرائه، حتى وإن كانت بعيدة كلياً عن الآراء والمجال الذي اشتهر به في السابق، وابتعد عنه بإرادته.
معظم الحضور في المشهد العام محرقة شخصية
أرى أن مكاسب السعي للحضور بشكل مستمر في المشهد العام لا تقارن مع الخسائر المحتملة. معظم هذا الحضور سيكون محرقة لمسيرة الشخص، إلا إذا صحح وضعه وسيطر على حضوره، وأعاد توجيه الدفة للاتجاه الصحيح. الإعلام والظهور له وهج وإغراء في البدايات، ولكن احتمالية انقلابه لمحرقة ذاتية هي احتمالية كبيرة.
من أراد أن يعرفه الناس كخبير ومتخصص في مجاله، فطريقه الصحيح هو عبر تركيزه على إنتاجه ومشاريعه وتحقيقه النجاح المتميز فيها. هذا النجاح هو الذي سيصبح الخبر وحديث الناس ويجلب له الشهرة المستحقة. إبراز الشخص نفسه كخبير ومتخصص في مجاله عبر مشاركاته المستمرة في الإعلام والملتقيات هو طريق مختصر للشهرة، ربما يعرفه الجمهور المستهدف من خلال مشاركاته هذه، ولكن هو طريق سراب لأنه بلا مشروع أو نجاح حقيقي، وإنما ناقد أو معلّق على أحداث وأخبار مجاله ونجاحات ومشاريع الآخرين فيه. مع الوقت سيصبح معلّق وحكواتي، ويكتشف أن الناس تعمل وتنتج وهو يتحدث ويعلّق حول أعمالهم لا أكثر.
ومن يرغب في الظهور للمشهد العام لأجل مشاركة قصة نجاح أو تجربة ناجحة خاضها، فهذا مقبول بل مستحسن أحياناً. هدفه ربما ليس الشهرة بذاتها، ولكن أن يستفيد الآخرين من تجربته وهم يصنعون تجارب خاصة بهم في مجاله، هدفه ربما أن يلهمهم. الخطورة في هذا الظهور هو كثرة تكراره كما ذكرت سابقاً، فيصبح مثل الذي يتنقل بين القنوات والملتقيات لأجل حصد الإعجاب والتصفيق، مكرراً قصته التي حفظها الناس، ومتسبباً في جعلها قصة مبتذلة. كم مرة ظهر الناجحين والعظماء لكي يحكوا قصص مسيرتهم؟ ربما بعد نهاية المسيرة في لقاء أو كتاب سيرة ذاتية، وكثير منهم لم يحكوا تفاصيل قصصهم بل بحث عنها آخرين ووثقوها.
أما من يظهر للمشهد العام مبشراً بأفكار وآراء رسالية، لأجل دحر الخصوم وأفكارهم، والدخول في صراعات فكرية وتيارية، فحضوره هذا هو الأكثر مخاطرة والأقرب للفشل على المدى البعيد، بالذات إذا كان الشخص في سن الشباب. تصاعد حضور الشاب المندفع إعلامياً في وقت زمني قصير يرجّح احتمالية احتراقه وندمه لاحقاً، ويرجّح احتمالية تراجعه عن كثير من أفكاره وآرائه وقناعاته مع الوقت عند صوله لمرحلة النضج. وعندما يعود ليراجع ما هو موثّق علناً من آرائه وأطروحاته في بعض القنوات والملتقيات، فإنه يودّ لو أنه لا يمكن لأحد الوصول لتلك المحتويات لأنه لم يعد يؤمن بما كان يطرحه، بل ربما يخجل منها في السر. ربما يكون تراجعه هو عن أصل أفكاره تلك، وربما عن أسلوبه السيء في طرحها، وربما تراجعه هو عن غرور الشباب الذي غادره بعد بعض التجارب والعمر.
خير الحضور هو بالعمل
خير أنواع الحضور في الإعلام والمشهد العام هو عبر العمل، عبر النجاح الذي تحققه ويتحدث عنك وعن عقليتك وشخصك. لا شيء أجمل من أن يكون عملك هو الذي يتحدث، والناس هم من يناقشه، وأنت منزوي منشغل بنفسك تهذّبها، وبعملك تحسّنه، وبروحك توازنها، لعلّها تغفر لك، فتتمكن من أن تتصالح معها.