لأننا لا نحب الآفلين.. عن الحضور الجميل: كيف تحافظ على وهجك وحضورك مع من يستحق
تعتقد أنك محور الكون، لسانك لا ينطق بذلك، أفعالك ومواقفك تقولها.
مع عائلتك، في العمل، ومع الأصدقاء، تحسب أن مصير كل شيء يعتمد عليك ومرتبط بك. تظن أنك بوصلة ما حولك، وتتوقع أن يتجه كل شيء حيثما تشير.
تعيش في حالة تحفّز مستمرة، تنظر لمسيرتك كسلسلة معارك مع الحياة، إمّا أن تهزمها أو تكسرك. ترى نفسك والحياة نداً بند.
هوّن على نفسك..
حياتك رحلة، وأنت جعلتها سلسلة معارك وحروب
الحياة لم تستقعد لك، الحياة لا تستقعد لأحد، نحن لا شيء أمامها حتى تضعنا في حسبانها.
العالم لا يدين لك بشيء لمجرد وجودك فيه، كنت في العدم وستغادر في أي لحظة.
ستموت، وسيحزن أحبتك قليلاً ثم ينشغلون، سيتأثر عملك قليلاً ثم يستمر، سيفتقدك البعض ثم ينسوك. غيابك ببساطة لن يغير شيئاً من حولك فضلاً عن العالم، يا محور الكون.
أرفق بنفسك وخفف من هذا التوتر، مزاجك أصبح رهينة لحالة توتر مستمرة افتعلتها بينك وبين حياتك. معركة تعيش فيها، ومزاجك يطيب ويتعكّر بحسب مجرات سيرها.
علاقاتك بمن حولك تتأثّر بحسب تقلّب مزاجك. ما أجملك عندما تستشعر النصر أو الاقتراب منه، وما أتعسك عندما تُنهك وتتعب أو تستيقن خسارة معركة.
ما ذنب أهلك؟ رفاقك في العمل؟ أصدقاؤك ومن يحبك؟
ما ذنبهم لتتأرجح علاقاتهم بك بحسب حالة مزاجك؟
من يحبك سيصبر عليك وعلى مزاجك وتقلباتك. ربما يصبر ويتصبر ولكن سيملّ يوماً من صبره ومنك.
لو تعلم فقط أن الحياة رحلة، ليست حروباً ومعارك.
وجمال هذه الرحلة هو في حضورك..
الحاضرون أجمل الناس
الحضور، هذه الكلمة الساحرة، الأنيقة، التي تصف كل الجميلين في هذا العالم، وكل الجميلين الذين غادروه.
فلان حاضر، فلان يحضر، حضر فلان، فلان دائم الحضور، فلان يملئ حياتنا بحضوره.
أن تحضر يعني أن يُعتمد عليك، أن تستحق الثقة، أن تكون عند التوقعات وأكثر، تعني أنك مصدر أمان، وأنك ستكون هناك عندما يُحتاج لك.
حضورك يعني أن ترد على من يتصل بك، تجيب على من راسلك، تنصت جيداً لمن يتحدث معك، تنظر في عينيه وتومئ برأسك مؤكداً اندماجك معه واستحقاقه لانتباهك.
حضورك يعني أن تتواجد عندما تظهر المشاكل، تكون هناك عندما يقال لك: "ودّنا نتكلم"، تأتي على الوقت كما يُتوقّع منك، تأتي بكامل اهتمامك وتركيزك واستعدادك حتى لو أنصت فقط.
حضورك يعني أن تتواصل وتتواجد حتى لو لم يكن يُتوقع منك ذلك، أن تصل الرحم والود والسؤال بسبب وبدون.
أن تحضر يعني أن تجيب "نطلع" عندما يقال لك "نطلع؟" وأنت تعرف أن وقتك يسمح، وأن الوقت معهم أهم وأجمل.
لو تعلم فقط أن جزء كبير من شخصيتك ترسمها بمستوى ونوع حضورك. مصداقيتك هي رأس مالك، ويمكن قياسها بحضورك.
أن تحضر يعني أنك لست مثلهم.. الآفلين.
الآفلين لا يعوّل عليهم
طبيعي أن يتأرجح حضورك بحسب ظروفك، كلنا بشر. ولكن عدم التمكن من الحضور والغياب المبرر يختلف عن الأفول.
شريكك ومديرك وزملائك في العمل لا ينتظرون حضورك بنفس التركيز والاستعداد والتواجد طوال الوقت، زوجك وأبنائك كذلك لا يتوقعون ذلك منك.
عندما لا تقوى على الحضور وتعبّر عن ذلك، فأنت لا تفقد حضورك في ذاكرة ووجدان الآخر. غيابك المؤقت لن يهز حضورك في ذاكرتهم ووجدانهم لأنه غياب مبرر وواضح وصادق ويعرفون سببه.
الذي نأمله فقط هو أن لا تصبح من الآفلين، لأنهم أسوأ من نشارك وأسوأ من ندير وأسوأ من نحب. عندما تتجاهل وتتهرب وتغيب بدون تواصل وتوضيح، وتصبح تلك من عاداتك، تصبح تدريجياً من الآفلين.
والآفلين مصداقيتهم مهزوزة، لا يُعتمد عليهم، ليسوا محل ثقة، يخذلوننا ويخيبون توقعاتنا، يتحكم مزاجهم فيهم، فقدوا السيطرة عليه وأصبحوا رهائن له. مزاجهم أصبح من يتحكم في مصير علاقاتهم بالعالم.
يظن الآفلين أنهم وحدهم من يعاني ويواجه التحديات والمصاعب، ينظرون لتوقعاتنا تجاههم وكأنّها حمل ثقيل على أكتافهم، كأنّنا نطلبهم صدقة. لا يعلمون أننا لا نتوقع منهم غير المعاملة بالمثل. فنحن حاضرون معهم، ونتوقع ذلك منهم.
لا يعلمون أن كل غياب غير مبرر، وكل خذلان غير متوقع، يمحو من معزتهم شيئاً لا يمكن استعادته.
سرّ استمرار الحضور الجميل
سرّ استمرار الحضور الجميل هو في جرأتك على إعادة تقييم علاقاتك بشكل ناضج. ليس كل من عرفت وتعرف، كل من صادقت وتصادق، كل من أحببت يوماً وربما أحبك، يستحق نفس مستوى الحضور منك. يمكنك وضع العالم في دائرتين:
- الدائرة الأولى: فيها عائلتك وأقرب الأصدقاء وزملاء العمل ذو العلاقة المباشرة بك. هؤلاء يستحقون منك الحضور الكامل، الحضور الأنيق، الاهتمام والانتباه الكامل، المبادرة والسؤال عنهم، الاستجابة الفورية لتواصلهم. جزء كبير من سعادتك تستمده من علاقاتك الصحية معهم، وهذا يعني أن استثمارك في الحضور الجميل معهم وفي محيطهم سيعود عليك بالنفع فوراً وفي المستقبل.
- الدائرة الثانية: فيها باقي البشر. تسجل معهم حضور خفيف لا يثقل عليك لأن علاقتك معهم ببساطة ليست بعمق علاقة الدائرة الأولى.
سرّ الحضور الجميل هو في تركيزه وتكثيفه في علاقات مستحقة، تحافظ على وهجك لمن يستحق.
تُدخِل وتُبقي في دائرة حضورك من تراه يستحق حضورك، وتخرج منها من أفل. لا يعني ذلك أن تقاطع وتهجر وتغاضب، بل يعني أن تساويهم بباقي البشر.
فمن اختار الأفول، لا يستحق منك الحضور الجميل..