ماذا يفعل المتدفقون عاطفةً عندما تتلبسهم النفس اللوامة؟
عندما أنظر إلى الوراء، وأتذكر أحداث وآراء ومواقف شخصية معينة، أنزعج ويتملكّني الإحراج والخجل، ويكاد يتصبب مني العرق بمجرد تذكرها.
اسأل نفسي: لماذا قلت أو كتبت ذلك؟ لماذا عبرت بذلك الشكل؟ ماذا كان يجول في خاطري آنذاك؟ أين عقلي وقتها؟
يخفف الحسن البصري شيئاً من هذا التقريع عنا بقوله: “إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائمًا، يقول: ما أردت بهذا؟ لم فعلت هذا؟ كان غير هذا أولى، أو نحو هذا من الكلام.”
في مذكراته البديعة، يقول فرانز فون باين:
"إنّ المتدفقين عاطفةً لا يُسألون عن فعّاليات قديمة سبق لهم أن قاموا بها في ظروف مر عليها ردح من الزمن".
وقد رزقني خالقي عاطفةً متدفقة، لا أبخل بها على من حولي، ولا أرى تعارضاً بين العاطفة المتدفقة والرجولة والقيادة.
وأصحاب العاطفة المتقدة -بعكس الذين قتلوا عواطفهم وأحاسيسهم- ينبضون بالحياة، ويتفاعلون بحميمية مع من حولهم من أقارب وأصدقاء ورفاق عمل، ومجتمعهم ككل.
وبالتالي نحن أكثر عرضةً لارتكاب الأخطاء مقارنةً بالأحياء الميتين الذين اغتالوا عواطفهم.
ونفس الإنسان كما نعلم متقلبة الأحوال، يطغى عليها تارةً اللوم فتكون نفساً لوامة، وتسيطر أحياناً على صاحبها فتصبح نفساً أمّارة، وعندما ينزل عليها المولى الطمأنينة والسلام فإذا بها "النفس المطمئنة".
يقول تشارلس تاليران، وهو من رجال الثورة الفرنسية المرموقين، عمل وزيراً لخارجية بلاده في عهد نابليون بونابرت ولويس فيليب ولويس الثامن عشر وتوفي 1838م:
عندما يعود المرء بذاكرته إلى عشرين سنة مضت، فلا بد أنه يتوصل إلى استنتاج مفاده أن أي شخص آخر يكون بمحله لن يتصرف إلا بالطريقة التي سبق أن تصرف بها آنذاك.
وإن ما عمله وما قاله وما كتبه أو ما عاتب أو ما أيد، لا يمكن أن يكون خطأ بالنسبة إلى الظروف التي مرت به في ذلك الحين.
ويمكنني أن أزعم هنا بأنه لا يكاد يوجد من يشذ عن هذه القاعدة.
وعليه فإنني أعطي الحق كله لأي إنسان سواء كان أميراً أو رجلاً من عامة الناس في تحمل المسؤوليات التي سبق أن تولاها لأنه صادف ظروفاً عاشها هو وليس غيره.
فالوقت الذي سبق أن تصرف به قد تغير، وأصبحت الظروف التي يعيشها غير الظروف التي أحاطت به عند تصرفه في واقعة قديمة، لأن الظروف لا بدَّ أن تؤثر في الأحداث تأثيرا لا يستهان به، فما يمكن اعتباره اليوم من الأمور البسيطة والمسموح بها، قد يكون من الأمور الملعونة المستنكرة في تلك السنين الماضية.
عند استذكار ومراجعة لحظات ومواقف شخصية معينة، من الإنصاف علينا تجاه أنفسنا أن لا نقسو عليها حتى نصل لمرحلة نكرهها فيها.
علينا أن لا نتجاهل المرحلة والعمر والظروف والسياق والمجتمع الذي كنا نعيش فيه.
يكفينا اكتشاف أننا لسنا بذلك الذكاء الذي كنا نعتقده في أنفسنا، وأن العالم والأحداث والأسباب والمؤثرات أعقد بكثير من فهمنا الساذج.
رحمتنا بأنفسنا لا تعني أن نتنكر لأخطائنا، وأن ننفيها أمام أنفسنا، فإنكار الأخطاء يعني حتمية وقوعنا فيها مجدداً، وربما فيما أسوأ منها.
عندما تنزع سياق ومؤثرات حدث ما (الصورة، الصوت، الجماهير، الشعور، عمر الشخص وحالته الاجتماعية، إلخ..)، سيسهل عليك الحكم على رأي أي شخص تبناه في ذلك الحدث، وغالباً سيكون حكمك سطحياً ومجحفاً لأنك تعاملت مع ذلك الرأي وكأنه قيل في فضاء فارغ تماماً.
ومهما حاولت استحضار ذلك السياق والظروف والأجواء والمؤثرات التي كنت تعيش فيها تلك اللحظة، فإنك لا تستطيع.
فما يمكنك استرجاعه من الماضي هو ومضات وذكريات ولحظات، وليست الأجواء ككل.
إذا تجاوزت مرحلة الشباب والحماس الانفعالي، ستعرف أنه من الظلم محاكمة الناس على لحظات معينة في ماضيهم إذا كانوا هم بأنفسهم لا يعتزون بها اليوم.
فكرة حكم الأفراد على غيرهم بحد ذاتها هي فكرة غبية.
لو قلت لشخص بأنني أرغب في تقييمك والحكم عليك، وعلى آرائك، لقال لي: من أنت؟ ولماذا؟ وبأي حق؟
ومع ذلك، فإن هواية معظم الناس اليومية هي تقييم غيرهم وإصدار الأحكام بحقهم، لكي يشعروا بالرضا عن أنفسهم.
ما يهم حقاً هو أنت اليوم.
ما يهم هو نظرتك أنت تجاه نفسك وطريقة حكمك على نفسك.
ما يهم هو صدقك مع نفسك.
هل تغيرت لأن الظروف اختلفت؟
أم تغيرت لأنك ترغب في أن تتصالح مع نفسك، وتعيش مع ذات تحبها وتحترمها؟
هل هو تغير الجبان؟
أم تغير الشجاع الذي قرر أن يعيش مع نفسه بأقل قدر من التناقض؟
الشجاع الذي قرر أن يتوقف عن تقمص شخصية لا تمثله، ولا أن ينشغل بأمور يعرف حقيقةً أنها لا تتسق مع طبيعته وقدراته؟
لا يعلم صدق وحقيقة تغيرك إلا خالقك ونفسك.
الحقيقة الصادمة التي اكتشفناها هي أننا أبسط مما كنا نعتقد في أنفسنا.
وأننا نضعف ونعيش مثل غيرنا تحت وقع ظروف وسياقات نعرفها أو نجهلها.
الجيد في هذا الاعتراف هو أنه سيدفعنا للتواضع أكثر.
وليس هناك برأيي حياة أجمل وأنقى من حياة الصادق، المتواضع، المتصالح مع نفسه، والذي يحاول أن يبقي عاطفته متقدة مهما كان.