الكتابة تُتعِب، ولكنها تواسي.. الكتابة كاستثمار ذاتي بعيد المدى
"أكتب لأنني أحب الكتابة، وأحب الكتابة لأن الحياة تستوقفني، تُدهشني، تشغلني، تستوعبني، تُربكني وتُخيفني وأنا مولعةٌ بهـا"
- رضوى عاشور
عدد من يتابعني في تويتر أكثر من 200 ألف شخص، حجم التفاعل معهم هناك لا يقارن بأي حال مع عدد زوار وقرّاء هذه المدونة. نشر الأفكار والمحتويات عبر تويتر لحظي ومباشر، لا يستهلك جهد وتفكير معمّق، ولا يستنزف الكثير من وقتي. فلماذا أحاول جعل الكتابة الذاتية والتدوين عادة مستمرة لدي رغم ما يتطلبه ذلك من جهد ووقت وتركيز؟
التفكير لوحده لا يتطلب مجهود كبير، مهارات مثل التأمّل والاستقراء والمقارنة والعصف الذهني واسترجاع معلومات وبيانات من الذاكرة، ثم الوصول لنتيجة على شكل فكرة أو رأي حول موضوع معين. أتحدث هنا عن التفكير وتكوين الآراء حول مواضيع عامّة وبسيطة، وليست في مجال الأبحاث والدراسات. ولهذا الجميع لديه أفكار، والجميع يزعم أن أفكاره رائعة. بعد تكّون ملامح فكرة جيدة، حان الوقت لتوثيقها وصياغتها بشكل مناسب.
الخطابة والإلقاء أمام الجمهور (في مجلس صغير أو محفل أو برنامج تلفزيوني، أو سنابشات وانستاغرام إلخ..) تتطلب مهارات إضافية، مثل القدرة على ترتيب الأفكار، والبداهة، والجرأة أمام الناس، والسيطرة على الذات والحركات، وقراءة الوجوه والأصوات، وغيرها. مع شيء من الممارسة والوقت، يمكن للمرء أن يصبح متحدّث جيد في أي مناسبة ووضع، وأمام أي جمهور، وربما حول أي موضوع يحب أن يفتي فيه أمام جمهور غير متخصص.
أمّا الكتابة بأنواعها (التدوين والكتابة الذاتية كمثال) فوضعها مختلف. لديك فكرة تدور في ذهنك حول موضوع معين، تبقى تذهب وتعود وتدور لبعض الوقت، تفكر فيها ربما ساعات أو أيام أو شهور أو أكثر في بعض الأحيان. عندما أقرر الكتابة حولها، فأنا أحاول إخراجها من عقلي وتحويلها من حالة جنين هلامي غير واضح الملامح، إلى كائن حي متماسك على شكل مادّة مقروءة. الكتابة بشكلٍ ما هي عملية تفكير بصوتٍ عال بيني وبين نفسي. أكتب ثم أتوقف ثم أتراجع ثم أحذف ثم أعيد صياغة ما كتبت، أعيد ترتيبه، ثم أحذف نصف ما كتبت، ثم أواصل الكتابة. عملية مجهدة من التفكير والتقدّم والتراجع والدوران والتفكير مع نفسي، عملية تستهلك وقت وجهد ذهني حقيقي ممن يحاول أن يأخذ الموضوع بجدية.
أكتب لأنني أستمتع بمواجهة نفسي، أحب مواجهة عقلي، أريد مناقشة وتداول تلك الفكرة بيني وبين نفسي عبر مراحل تأمّل ومفاوضات ذاتية، فيها أخذ ورد، تقدّم وتراجع، صراع ذهني يكون نتيجته انتصاري أو هزيمتي. أحياناً أنجح في الوصول لخط النهاية، وكثير من الأحيان أفشل. الكتابة تساعدني على مسائلة نفسي وأسلوب تفكيري وأفكاري نفسها، تساعدني على التشكيك المستمر في نفسي وتحدّيها، تساعدني أفهم ذاتي وأتعمّق فيها. تساعدني أن أتحسّن في أسلوب التعبير عن ما يجول في ذهني. الكتابة فيها انكشاف على نفسي، مصارحة لها، فضح لقدراتي على ترجمة وصياغة ما أفكر به. محاولة للتأكد هل عندي "سالفة" أم لا؟ يقول إدواردو غاليانو "الكتابة تُتعِب، ولكنها تواسي" وهذا حق.
توثيق الأفكار والخواطر على شكل تدوينات مطولة أو قصيرة هو استثمار ذاتي بحت، استثمار بعيد الأمد في نفسي. مثل كل الأمور الرائعة والمهارات المتميزة، الكتابة فن ومهارة تحتاج لوقت وممارسة طويلة مستمرة حتى يستطيع المرء تملّكها وممارستها بشكل عفوي واحترافي بدون جهد كبير. الخطابة والتحدّث (السواليف) عن فكرة أو موضوع معين وربما إقناع الجمهور برأيي حولها هي عملية أسهل بكثير من الكتابة حول نفس الفكرة والموضوع. بمجرد أن أنطلق في الحديث، تبدأ الكلمات في الخروج بترتيب يتحكم به عقلي الذي يعمل على توليدها بهدوء وثبات واستمتاع. ولكن الكلام والحديث يطير في الهواء، وليس من السهولة الاحتفاظ به والعودة له. وحتى إذا استطعت ذلك، فإن العودة له ومراجعته والتأمل فيه يستهلك وقت ويصيب المرء بالملل من نفسه. أمّا الكتابة الذاتية فهناك سحر ومتعة يستشعرها المرء عند العودة لها بعد بعض الزمن، عندما يتأمّل في طريقة صياغته وترتيب أفكاره، يتذكر حتى السياق الذي كان يمرّ به عندما كتب ما كتب. "الكتابة حياة والكلام موت، فصوتي قد يضيع وحرفي خالد للأبد" كما يقول محمد حامد.
التفكير والخطابة والكتابة قدرات تحتاج ممارسة ووقت وتجارب، من يستطيع تملّكها فقد أصبح لديه كنز من القدرات يستطيع تسخيره بشكل مؤثر في حياته العملية والاجتماعية. كثير من الناس لديه أفكار رائعة، ولكن كم بينهم من يملك مهارات تمكّنهم من شرحها وإيصالها للآخرين بأسلوب جذّاب ومقنع يساعدهم في تحقيق أهدافهم وتطورهم مهنياً واجتماعياً وإنسانياً؟
أرى نفسي متبدئ وفاشل بامتياز من ناحية الالتزام بالكتابة وجودتها، ولكني أكتب متمنياً أن أصل يوماً لمرحلة رضوى عاشور التي قالت: "الكتابة تأتي، تأتي من تلقاء نفسها فلا يتعيّن عليّ سوى أن أقول مرحبًا وأفسح لها المكان"..