تخطى الى المحتوى

عن الفيل الأسود الجاثم فوق أكتافي، حان الوقت له أن يترجّل!

فؤاد الفرحان
فؤاد الفرحان
1 دقيقة قراءة
عن الفيل الأسود الجاثم فوق أكتافي، حان الوقت له أن يترجّل!

ظروف الليالي تصنع من الرجال رجال
وتضعف ضعيف العزم لا مرّته مرّه
ظروف الليالي صنفره والقسا لاطال
يبين لك المقدام واللي على الجرّه
- مشعل بن سابر

احترق قلبي في ليلة الإثنين 25 يوليو 2021، هكذا ببساطة وبدون مقدمات! تلك الليلة كانت بين أبرز ثلاث لحظات مفصلية في حياتي، وكل ما عداها من أيام وليال فهيّن مُحتمل.

بلغني اتصال من رقم مجهول في التاسعة مساءً يعلمني بوقوع حادث مروري بسيط، صاحب الصوت يؤكد لي:  "أنهم بخير وكل شيء على ما يرام"، تطلّب مني ربع ساعة حتى وصلت لموقع الحادث، و 8 شهور حتى استطعت الآن كتابة شيء حول ما حصل!

أبنائي الثلاثة في السيارة، فلذات كبدي جميعاً في علبة من صفيح.. كل ما أملك - تخيل أن تفقد كل ما تملك! لم تعد الحياة بعدها بالنسبة لي كما كانت.

يجثم فوق كاهلي فيلٌ أسود منذ تلك الليلة.

التفاصيل العشوائية للحادث ما زالت كالصواعق تقصفني وتعكر صفوي،
منظر تجمهر الناس..،
لهث أنفاسي وأنا أجري فأدفع الجموع وأتخطى السيارات حتى أصل لأبنائي،
صوت سيارات الإسعاف كالعويل في مأتم وأنوارها الحمراء واقفة هناك،
مراقبة نبضات قلب (رغد) على شاشة سيارة الإسعاف ونحن نطوي المسافة لقسم الطوارئ.. قلبها .. حياتها تمثلت في خط على شاشة يعلو متردداً ويهوي مترنحاً،
صدمة (خطّاب) وذهوله عما حوله وجسده الذي يرتجف رغماً عنه،
(يزن) .. هل بقي يزن على قيد الحياة؟  كيف لي أن أعرف وقد هرعت سيارة الإسعاف التي تحمله وهي لا تلوي على شيء،
ثم تتكاثف الصور وهي تومض أمامي وأنا أعثر في عدوي لغرف الطوارئ، خطوط للدماغ وأخرى لقلوب، أصوات الأجهزة الطبية ورنينها، فقدان رغد للسمع مؤقتاً، رؤية طفلي يزن ذو الثمانية أعوام مضرجاً بالدماء.
لاحقاً أعلمني صاحب السيارة الأخرى أنه أفاق ليجد نفسه مستلقياً في الشارع بعد وقوع الحادث، يقف فوقه صغيري يزن والدماء تلطخه يصرخ في وجهه بذعر: "وخّر (أبعد) هذا الدم عنّي"!

استغرقت معالجة آثار الحادث وتبعاته أسابيع عدة، عاد أبنائي لكامل صحتهم البدنية والذهنية كما كانوا وكأن شيئاً لم يكن  -ولله الحمد حمداً يليق بجلاله على كل شيء- ولكنّي لم أعد، ولم تعد الحياة بالنسبة لي كسابق عهدها.

الفرق بين التحديات اليومية والصدمات

يمكن للمرء أن يتعامل بالكرّ والفرّ مع معظم تحديات حياته العملية والاجتماعية اليومية، بالمداهنة حيناً وبالصدام أحياناً أخرى. أما الأحداث المفصلية في حياته فالتعامل معها يحتاج لمهارات، وأدوات من نوع مختلف.
الأحداث الصادمة تنحت وجودها داخلنا، وتبقى خالدة في الذاكرة والأعماق، ولا يمكن لبعضنا -حتى لو أراد- أن يمحو تفاصيلها من ذاكرته وآثارها من روحه بسهولة.

منذ تلك الليلة، استيقظ في الصباح الباكر من الموت الأصغر وأمامي يوم طويل أقضيه مستمتعاً بهذه الحياة إما مداهناً أو مصارعاً لها، فإن ملكت أمري وسيطرت على أفكاري ومزاجي، فستلقاني مستمتعاً بقضاء يوم آخر على سطح هذا الكوكب مهما بلغت التحديات والمنغّصات. أمّا إن أرخيت العنان لجموح الوساوس وتسلط الهواجس، فليرحمني المولى وليخفف عني وطأة قساوة اليوم.

في كل مرة فكرت في الموت بعمق كنت أنا من يموت، أنا من أُفقَد، أنا من يهل التراب عليه ويخلّف وحيداً. أنا في القبر وحدي، أنا وسؤال الملكين، والوقوف بين يدي الرحمن، ورؤية الحبيب عليه أفضل الصلاة والسلام، والاجتماع بمن أحب في جنان الخلد -برحمة الله-  لم أفكر ولو لمرة واحدة في الطرف الآخر من الموت  فأكون أنا من يغسل أحبابه، ويحملهم ويسير في جنازتهم ويهل التراب عليهم ويخلفهم فيمضي إلى دنياه.. أن يدفن الأبناء الآباء، فتلك سنة الحياة أما خلاف ذلك فألم وأي ألم أن يفقد الآباء فلذات أكبادهم دفعةً واحدةً وفي غمضة عين! عل هذا غرور مني وسوء تقدير، فالتفكير في الموت واحترامه يجب أن ينطلق لا من يقين المرء بالموت واستعداده له ولما بعده، ولكن إدراك تعرضك لفقدان أي من والديك وزوجك وأبنائك وأصدقائك ومن تحب، وأنت على قيد الحياة. ماذا سيكون شعورك عندها؟ هذه الحقيقة القاسية المرّة التي يجب أن تفكر بها ملياً ذات يوم.

ملامح وطأة الفيل الأسود

أهلاً بك صديقي الفيل، هكذا همست له عندما اعترفت أخيراً - بعد إنكار أولي- بوجوده وثقله فوق أكتافي، تجاهلته لفترة مؤملاً أن يغيب فجأة لوحده، أو أن أنجح في ابتكار طريقة ما للتخلص منه بأسرع وقت وبأقل ضرر، ليتضح لي أن الأمر ليس بتلك السهولة.

الفيل الجاثم فوق كاهلي وترزح روحي تحت وطأته أثقل وزناً وأعظم حجماً من تجاهله. ولكني وصلت لطريقة مقبولة للتعايش معه، فحواها أن يترك لي قسط النهار من يومي، وأسلّم له بالوجود في المساء.

لاحظت بعد الحادث بأيام أن قلبي بعد التاسعة مساءً ينبض بتسارع غير مبرر، تمر ليالٍ بطولها وأنا في حالة تأهب مستمرة، وكأنّ مصيبة ما على وشك الوقوع. اتصال جوال، جرس المنزل، تنبيهات تطبيقات الرسائل، البريد الإلكتروني، كلها أمور وضعها الطبيعي أن تكون عادية في مجملها ولا تحمل خبراً مفجعاً، لكن أصبح وضعها الافتراضي عندي احتمالية أن تزف المصائب لي!

النوم أصبح ملحمة صراع ليلية، أمّا أن أنام قرير العين، أو ما يعرّفه الأطباء بالنوم العميق، فذاك حلم أتمنّاه. وقد تمرّ الليلة تلو الأخرى فلا أستطيع فيها النوم في وضع آلفه، لأنني أشعر بارتداد نبضات قلبي المتسارعة على السرير.

شرخ في الصلابة وتصاعد الهشاشة

لطالما كنت فخوراً بصلابتي أمام نفسي، واجهت في حياتي -مثل غيري- كثير من الأحداث والصدمات، ولكني استطعت تجاوزها ومنعها من كسري بفضل الله. الصلابة شيء مختلف عن القسوة. فبعكس ما يعتقد البعض، يمكنك أن تكون صلباً وفي نفس الوقت طيّب المعشر، رقيق المشاعر، واثق الخطى، مقبلاً على الحياة. أمّا القسوة فتتطلب قتل المشاعر، والتجرد من الإنسانية والتعامل مع العالم والناس وفق قانون الغاب.

تعرّضت صلابتي تدريجياً بعد الحادث لشرخ أحسبه من العمق ما استشعرت تصاعد الهشاشة بعده. خبر سلبي عن مشكلة ما في أقصى الأرض، مشكلة بسيطة في العمل، معوقات هينة تستطيع النفاذ إلى مزاجي ونفسيتي فتتسبب في تسارع نبضات قلبي، أو توترني، تشد من وتر القلق تاركة للأفكار السوداوية أن تعزف ما تشاء من ألحان. خبر إيجابي بسيط، أو موقف جانبي يرسم الابتسامة، بمقدرتهما رفع معنوياتي وفرحي إلى حد لا يبرر. لم أكن أعلم حجم ما يمكن أن يحمله قلب أب من حب تجاه أبنائه إلا عند تلك الليلة. كل ذلك الحب الذي كاد أن يختطفه الموت في غمضة عين!

عطب بداخلي أفقدني الاتزان، أو شيء تهشّم فما عاد يشير إلى وجهة، وأظنّه الشعور بالأمان. تنهض من سريرك، تتجه لعملك، تعود لمنزلك، تسافر، تقابل المعارف وتصادف الغرباء، تمارس ذلك بشكل طبيعي وبدون تفكير لأنك تشعر بالأمان، مثلما لا تفكر بالأوكسجين وأنت تتنفسه تلقائياً. عندما تفقد الشعور بالأمان، يصعب عليك فعل الكثير دون العفوية المعتادة.

خطة طوارئ لمنع الانهيار واختبار فرضيات حلول

للأب حقوق كثيرة، وليس من بينها الحق في الانهيار والاستسلام. ولمنع لحظة الانهيار ومقاومتها، علينا بعد اللجوء لله، أن نبتكر أساليب وأدوات تساعدنا في الصمود. وأولى الأمور التي يجب التفكير فيها في وضع مثل وضعي هو وزن وتحديد علاقتي بالأطراف الخارجية ذات العلاقة بي بالحلقات التي تكون امتداداً لي؛  الأصدقاء، المجتمع، والعمل.

حضوري خارج عائلتي والعمل يدور فقط حول ارتباطي الشديد بوالدتي وطارق، وهما الحلقة الباقية. ألتقي بعدد قليل من الأصدقاء لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة بين حين وآخر حينما أشعر بأن المزاج اعتل فهوى لظلمة ورغبة في الانطواء على الذات. وعندما نجتمع، نتكلم في كل شيء ما عدا موضوعي.  التخفف من علاقاتي مع الناس خارج بيئة العمل هوّن من ضغوط جديدة، إذ يكفيني ما أنا فيه.

تعاملي مع الآخرين في العمل والمجتمع لم يتغير، سرّي يبقى بيني وبين نفسي. أرى أن التعود على الفضفضة مع الآخرين يضعف المرء مع الوقت ويزعزع صلابته. لديك مشكلة؟ لا بأس أن تتحدث عنها مرة مع من تثق به طلباً في المشورة، أو بغية الشعور بالخفة التي تتلو جلسات الفضفضة، أما اعتياد ذلك؟ فسيضعف شخصيتك ويلين من صلابتك، وينفّر الناس منك في نهاية المطاف.

نظرت لتواجدي في مجال الأعمال خطاً أحمراً لا يمكنني الحياد عنه أو الوقوف دونه. بعيداً عن الالتزامات والمسؤوليات المتعلقة بالعمل، انهماكي فيه ما هو إلا هروب من التفكير بما وقع ومنفذ من السلبية. الانسحاب من العمل في وضع كهذا كان سيفاقم من الشرخ. عل التحدي في بيئة العمل -خاصة بيئة الشركات الناشئة- هو عدم خلوها من الضغوط والتحديات. مما يزيد الطين بلةً. ولكنه همّ أهون من آخر! إذ يبقى تفكيري محاطاً بسياج العمل وضغوطه طوال اليوم دون التفلّت إلى الهم الأكبر حيث يقبع الفيل الأسود منتظراً الإذن بقدومه.

العدّاء فورست غامب

لم أرَ زيارة أخصائي نفسي حلاً مناسباً لي لأسباب يطول ذكرها، وفضّلت معالجة مشاكلي بنفسي. قررت تبنّي عادتين استثمر فيهما وقتي وذهني. اخترت الرياضة كأسلوب حياة، والكتابة كنشاط ذهني.

نجحت بامتياز مع الرياضة، وفشلت فشلاً فادحاً مع الكتابة. لم يدر بخلدي أنني سأقدر على جعل الجري المستمر لمدة 45 دقيقة عدة أيام في الأسبوع نمط حياة معتاد، ولكني بالفعل نجحت في ذلك! وأضفت معها تقوية الجسد بإشراف مدرب متخصص. اكتشفت أن انهاك الجسد بالرياضة في النهار يستجلب النوم ليلاً. وفي نفس الوقت، كنت أدفع نفسي في كل ليلة للتدوين والكتابة دفعاً، ولكني لم أنجح في كتابة شيء منذ 8 شهور.

لماذا فشلت مع الكتابة؟

حتى تكتب بشكل جيّد وتخفف من كل ذلك الضجيج الذي يدور في عقلك، يجب أن تكتب من الأعماق. هذه نصيحة كل العارفين بالكتابة والقراءة وأسرارهما.

يقولون عليك أن تغوص في داخلك أكثر، تغوص أكثر وأكثر حتى تصل لأعماقك، تلامس القاع داخل روحك، وتتأكد أنه ليس خلف القاع قاع، ثم تكتب. ستخرج الكلمات الصادقة من أعماقك، وستشعر بالراحة!

ولكن ماذا لو اكتشفت أن قاعك أصبح غابة تضاهي كثافتها كثافة غابات الأمازون؟ كيف تجد موضع قدم بين كل تلك الأغصان المتشابكة والميتة لتنطلق في الكتابة! هذه مشكلتي خلال الثمانية شهور الماضية.

فقدت القدرة على التعبير، واقتنعت أنني لن أستطيع الكتابة بصدق عن أي شيء حتى أكتب بصدق عن تلك الليلة. عل ذلك يسمح لي بشيء من التجاوز؟ وربما أتمكن بعدها من الكتابة عن أي شيء آخر بدون الشعور بالعجز والرغبة في الهروب.

لطالما كان هدفي النهائي من الكتابة هو الوصول لفهم ذاتي. فالكتابة أفضل وسيلة يمكن بها للمرء مصارعة أفكاره وسبر أغوارها، هي السبيل الأمثل لرؤية ما يدور في عقله ماثلاً أمامه فينازله.

ومنازلة المرء لأفكاره أفضل من الهروب منها حتى وإن خر صريعاً أمامها! لأنه يعلم عندها خصمه، يدرك ضرره ويتعلم ردعه شيئاً فشيء . أما الصمت؟ فلن يغادر الفيل من تلقاء نفسه وستئن يوماً ما وأنت ترزح تحت ثقله.

يقولون أكتب، فالكتابة سيف وعلاج إن جنبته تزييف الكلمات، إن تجاسرت وتشجعت على كشف أفكارك أمام ذاتك.

ولكن مشكلة الكتابة عن تجارب شخصية صادمة هي توثيق ضعفك، وهذا العالم لا يرحم الضعف. وأنا من الذين ينفرون من وضع أنفسهم في مواضع يسمعون فيها عبارات التعاطف.

أين أنا الآن؟

الأسوأ خلفي، والتماسك أوقف الانهيار. لامست القاع وتجولت فيه لفترة، لم يعجبني، ثم بدأت مرحلة الصعود والعودة. أمرّ بأفضل أيامي منذ الحادث،  لم أصل بعد لما كنت، ولكن لا بأس، فهي مسألة وقت لا أكثر. ما زلت ابتكر وأشحذ أساليباً وأدوات مختلفة في معركتي الشخصية هذه، أتمسّك بما ينجح منها، وما يفشل أتنازل عنه.

نعم، أثقل الفيل كاهلي، ولكنه سيتعب من صبري على مدافعته، وسيعود من حيث أتى يوماً ما -بإذن الله- ليس عندي أدنى ذرة شك في ذلك.

مع طارق، أخي الأصغر، سندي وسندياني..

تدوينات أخرى

للأعضاء عام

ما هي الضغوط التي يواجهها حارس روضة أطفال في الخرخير؟

إن مسيرة المؤسسين هي سلسلة متصلة من الأزمات والصداع والقلق المستمر، هي مسيرة مواجهة تحديات وحلّها، تحديات تطوير المنتج/الخدمة على نحو مناسب للسوق، تحديات الوصول للعملاء وإقناعهم، تحديات استقطاب الموظفين المناسبين، تحديات إقناع المستثمرين، وتحديات التوسع المناسب في سرعته وشكله لإمكانياتهم وقدراتهم.

ما هي الضغوط التي يواجهها حارس روضة أطفال في الخرخير؟
للأعضاء عام

ماذا فعل بنا بدر العرجاني؟ وماذا عليك فعله إذا "هجّت" معك!

ساعتان ونصف من الحوار العفوي الصادم مع العرجاني، تسبب في تعرّض قطاع ريادة الأعمال والشركات الناشئة والاستثمار الجريء السعودي لجرعات عنيفة من الصفعات والصدمات المستحقة، التي كان يحتاج إليها.

ماذا فعل بنا بدر العرجاني؟ وماذا عليك فعله إذا "هجّت" معك!
للأعضاء عام

لا تفكر بالراحة قبل أن تلعب المباراة.. عن الهوس بمفهوم التوازن بين العمل والحياة!

أتحسس مسدسي كل مرّة عندما أرى شاباً يتحدث عن مفهوم التوازن بين العمل والحياة، وهو في مقتبل العمر، في بدايات حياته المهنية!

لا تفكر بالراحة قبل أن تلعب المباراة.. عن الهوس بمفهوم التوازن بين العمل والحياة!