تخطى الى المحتوى

السعادة كوسيلة انتقام على طريقة جان جاك روسو

2 دقائق قراءة

أعدت قبل أسبوع قراءة “أحلام يقظة جوال منفرد”، آخر كتب جان جاك روسو، حيث أنه توفي بعد كتابته بثلاثة شهور. كتاب صغير يعتبر آخر ما سجل من خواطر وخلجات بدأ توثيقها في سلسلته الشهيرة بدايةً من الاعترافات وما بعدها. بحسب وصف المترجم، يكشف كتابه الأخير هذا عن نواحى نفسية الكاتب الكبير بما فيها من قوة و ضعف، من بساطة و تناقض، وهى خلاصة خمسة و ستين عاماً قضاها بين مد وجزر يتأرجح بين السعادة و الشقاء، يتذوق حلاوة الإستقرار حيناً و يتشرد ضارباً فى الأرض أحياناً كثيرة، تسلط عليه أضواء الشهرة و المجد مرة وسياط الإضطهاد والإذلال مرات.

في مقطع بديع من الكتاب، يشرح روسو لماذا اختار آخر عمره الانغماس في هواية دراسة الأعشاب والنباتات ومراقبة الطبيعة، مبتعداً عن الناس وكل الخذلان والمصائب التي مر بها:

لست أحاول أن أبرر اختياري لمتابعة تلك الهواية. إنني أجدها معقولة جداً، وأنا موقن، في وضعي الراهن، أن استسلامي للمتع التي ترضيني هو حكمة كبيرة بل هو فضيلة كبيرة كذلك. إن هذه الوسيلة لا تدع أية جرثومة للانتقام أو الكراهية تتوالد في قلبي، ولكي أجد في حياتي طعماً لتسلية ما، يتعين علي من غير شك أن يكون هناك طبع مصفى تماماً من كل انفعالات الحنق. إن هذا لهو بمثابة انتقام من مضطهدي على طريقتي. ولم أك لأستطيع أن أنزل بهم من العقاب ما هو أقسى من أن أكون سعيداً بالرغم منهم.
إني أتسلق الصخور والجبال وأتوغل في بطون الوديان، وفي الغابات لأتوارى بقدر الإمكان عن تفكير الناس وعن أذى الأشرار. وإنه ليخيل إلي وأنا في ظلال الغابة أنني منسي، حرّ، هادئ، كما لو لم يعد لي من أعداء أو كأنما عملت أوراق أشجار الغابة على حمايتي من أذاهم كما تبعدهم عن ذاكرتي.
وإنني لأتخيل - في جهالتي أنني حين أقصيهم عن تفكيري سوف لا يفكرون هم في أيضاً. أنني لأجد لذة كبرى في هذا الوهم حتى لأكاد أستسلم له كلية لو أن مركزي وضعفي واحتياجاتي كانت تسمح لي بذلك. وكلما أوغلت العزلة التي أحيا فيها في عمقها، كلما كان من الضروري أن يملأ فراغها شيء ما، فكل من يأباه خيالي أو تطرده ذاكرتي تشغل مكانه النباتات التلقائية التي تعرضها لعيني في كل ناحية الأرض التي لم يسخرها الإنسان. إن اللذة في الخروج إلى الصحراء للبحث عن نباتات جديدة تطغى على لذة الهروب من مضطهدي، وما أن أصل إلى مواطن لا أرى فيها أي أثر للناس حتى أتسنّم الهواء في حرية أكثر مما لو كنت في ملجأ لا تلاحقني في بغضاؤهم.

أعتقد أن الحيرة التي تصيبنا بعد خوض تجارب قاسية، تستحق منا العمل على معالجتها بطرق إبداعية مختلفة. أحد الطرق ممكن تكون عبر اكتشاف اهتمامات جديدة لم يكن المرء يفكر فيها يوماً، ربما ينتج عنها ملامسة لمشاعر الدهشة والسعادة مثلما حصل مع روسو عندما اكتشف عالم الأعشاب والنباتات آخر عمره. هذه المشاعر تمنع توالد الكراهية والإحباط داخل المرء.
خلو المرء من مشاعر الحنق والكراهية هو مكسب عظيم لوحده، وأن يكون المرء سعيداً فذلك فيه شيء من العقوبة لخصومه..

تعليقات

أحدث التدوينات

للأعضاء عام

النشرة البريدية (16) - حقائق قاسية عن النجاح

للأعضاء عام

النشرة البريدية (15) - أنت شخص سعيد، حتى لو تكن منتبه لذلك

للأعضاء عام

النشرة البريدية (14) - في المنتصف، حين يكون الإنسان عاديًا، ربما تكون الجنة

للأعضاء عام

النشرة البريدية (13) - إلى حفل أقرأ ولقاء عبد الرزاق قرنح

للأعضاء عام

لا تتزوجي رائد أعمال، إنّه فخ!

للأعضاء عام

النشرة البريدية (12) - آثار نهايات الصداقة المسكوت عنها

للأعضاء عام

النشرة البريدية (11) - تماسكوا يا رفاق

للأعضاء عام

النشرة البريدية (10) - الهروب من الجنّة

للأعضاء عام

لا تجعل التجارب السيئة تغيّرك، فتصبح مثلهم

للأعضاء عام

النشرة البريدية (9) - وقل اعملوا