تخطى الى المحتوى

في عزاء ذاكرة السمكة، وكيف نرى الجانب الإيجابي من فقدان مهارة ما!

في عزاء ذاكرة السمكة، وكيف نرى الجانب الإيجابي من فقدان مهارة ما!

كنت كلّما أقابل شخصاً ذو ذاكرة فولاذية، أشعر بالحسرة من ذاكرة السمكة التي ولدت بها. حصل ذلك معي كل مرّة شاهدت فيها بودكاست أسمار، وما يقدّمه الثلاثي المرعب من متعة، وهم يسردون آلاف الأبيات الشعرية بتدفقٍ عجيب.
لا أعاني مشكلة ذاكرة فيما يخص الذكريات والأشخاص والأحداث والأعمال والحياة اليومية، مشكلة ذاكرتي محصورة بضعف ما تحتفظ به بعد قراءة مادة مطولة. لو أنهيت للتو كتاباً من 400 صفحة مثلاً، فلن يبقى في ذاكرتي بعد آخر صفحة إلا شيئاً من السردية العامة، الخطوط العريضة، والمفاصل المهمة، أما التفاصيل فلن يبقى منها شيئاً إلا ما ندر. 
ولكن، بمجرد تقليب الصفحات مجدداً، ولو بعد فترة طويلة، تعود التفاصيل للذاكرة سريعاً، وهذا يعني أن ما قرأته لم ينمح من ذاكرتي، ولكن خُزِّن في الركن البعيد الهادئ منها، ويحتاج استرجاع التفاصيل لتذكيرٍ خفيف.

القراءة لأجل المتعة ليست كالقراءة لأجل البحث

القراءة المطولة لأجل البحث والدراسة والكتابة والتعلّم تختلف عن القراءة لأجل المتعة والتأمّل.
في الحالة الأولى، يجب على الشخص تطوير عادات والاستعانة بأدوات مثل تظليل النصوص، وتسجيل الملاحظات والكتابة على الهوامش، ثم إعادة القراءة والحفظ وكتابة الانطباعات. فهدف القارئ في هذه الحالة هو الاستفادة ممّا يقرأ لكي ينتج شيئاً ما لاحقاً. هذه العادات تساعد القارئ في تقوية ذاكرته سواءً كان ذلك قصده من الأساس أم لا.
أنا من النوع الثاني، الذين يقرؤون لأجل المتعة والتأمّل، القراءة المطولة تساعدني في الخروج من رتم حياتي العملية اليومية، أفرّغ تركيزي يومياً لبعض الوقت في عالمٍ ممتع بعيد عن ضغوط الحياة. نقرأ لنستمتع ونقضي الوقت، وربما نستفيد مما نقرأ في مجال عملنا اليومي.
عندما يقع بين يدي نصاً ممتعاً يشد تركيزي، فآخر شيء أرغب في عمله هو عرقلة المتعة بالتوقف بين حين وآخر لتظليل جملة أو كتابة تعليق. أفضّل أن أستمتع باللحظة الراهنة كما هي، أن أحلّق مع النص، وليس عندي مشكلة لو نسيت ما قرأت لاحقاً، فهدفي هو القبض على الدهشة والاستمتاع بها في لحظتها، وليس تخزينها لأجل العودة لها لاحقاً.

مدرسة العقل الثاني ليست لي

ابتكر تياجو فورتي منهجية أسماها "بناء العقل الثاني Building a Second Brain". يرى المؤسس أن دور عقولنا هو التحليل والتأمّل وليس التخزين. فلذلك علينا التوثيق إلكترونياً كل شيء يمرّ علينا يومياً مما يلفت انتباهنا، وفهرسته، وربطه مع محتويات سابقة قمنا بتوثيقها. ومع الوقت سيصبح لدينا شجرة معرفية مترابطة وضخمة لكل ما تلتقطه حواسنا، وهذا سيساعدنا مستقبلاً في استرجاع المعلومات سريعاً، والاستفادة منها، وصناعة محتوى ما منها.
شاهدت محاضرات المدعو تياجو، وقرأت كتابه، فربما يحل عقدتي مع ذاكرتي السمكية، وحاولت تطبيق منهجيته أكثر من مرة، ولكني وجدتها تعقّد حياتي بدلاً من أن تسهلها، ووجدتني أستشعر الذنب والفشل لأنني لست ملتزماً كما يجب بالتوثيق الفوري لكل شيء يلفت انتباهي. حاولت مع منهجيات أخرى مثل "زيتيل كاستن Zettelkasten" وغيرها، وكانت النتيجة تعيسة كذلك.
لاحظت أن تركيزي بدلاً من أن يكون منصباً على الاستمتاع بما بين يدي في لحظتها، ينحرف إلى عرقلة المتعة، وتذكّر ضرورة التوثيق لأجل الاستفادة المستقبلية. 

القراءة لا تذهب سدى

ضعف الذاكرة والإصرار على عدم تبني منهجية توثيق ما، سيجعلني في الغالب أنسى مستقبلاً الكثير من التفاصيل والأمور التي تلفت انتباهي الآن، ولكن لا أرى في ذلك بأساً ما دمت أستمتع بما يدي الآن.
عندما أستمع إلى بودكاست وحوار أو أشاهد مسلسلاً/فيلم وثائقي أو سينمائي، فإنّني لا أتوقف بين حين وآخر لتسجيل ملاحظات مهمة حتى لا تفوتني في المستقبل.
عندما أكون مع أصدقاء، ويدور بيننا حواراً مفيداً، لا أطلب منهم التوقف بين حين وآخر لكي أسجل نقاطاً وملاحظات مهمة.
نعم، سيفوتني الكثير، وسأنساه في المستقبل، ولكني لن أنسى شعور المتعة مع ذلك الفيلم والكتاب ووقت الأصدقاء.
يقول الكاتب الأمريكي الكبير رالف والدو إمرسون:

لا أستطيع أن أتذكر الكتب التي قرأتها أكثر من الوجبات التي تناولتها؛ ومع ذلك فقد صنعني كلاهما.

ما قرأته لن يختفي من ذاكرتي لأني لم أوثقه، ما سمعته وشاهدته لن ينمحي، أثر ذلك على تفكيري وعقلي سيكون موجوداً، وهذا هو المكسب.
لا نقرأ كتاباً لكي نصل لآخر صفحة منه في أسرع وقت، ولا لتوثيق ما يلفت انتباهنا فيه، ولكن لتوسيع مداركنا وعقولنا، وهذا ما سيحصل لنا من دون أن نشعر، مثلما أن الطعام يغير أجسادنا من دون أن نشعر، وبدون أن نوثّق ونتذكر ما نأكل.
تغيّرت نظرتي تجاه ذاكرتي السمكية بعدما استوعبت ذلك، فلم أعد أشعر بالحسرة والنقص تجاهها، وذلك لأنني استنتجت شيئاً أعمق أملكه بسبب فقدانها، وهو التركيز على الحاضر والاستمتاع به بغض النظر عن المستقبل.
وهكذا ربما يجب أن ننظر تجاه أي مهارة نفتقدها، ويمتلكها غيرنا، لا نستسلم لشعور العجز والحسرة، ولكن نبحث عن معنى أعمق يعوض فقدانها، ويشعرنا بالثقة بأنفسنا.

أحدث التدوينات

للأعضاء عام

النشرة البريدية (13) - إلى حفل أقرأ ولقاء عبد الرزاق قرنح

للأعضاء عام

لا تتزوجي رائد أعمال، إنّه فخ!

للأعضاء عام

النشرة البريدية (12) - آثار نهايات الصداقة المسكوت عنها

للأعضاء عام

النشرة البريدية (11) - تماسكوا يا رفاق

للأعضاء عام

النشرة البريدية (10) - الهروب من الجنّة

للأعضاء عام

لا تجعل التجارب السيئة تغيّرك، فتصبح مثلهم

للأعضاء عام

النشرة البريدية (9) - وقل اعملوا

للأعضاء عام

النشرة البريدية (8)

للأعضاء عام

النشرة البريدية (7)

للأعضاء عام

النشرة البريدية (6)