عن بيئات العمل الخمس في السعودية، والمكان المناسب لحصد الخبرات والمهارات واكتشاف الشغف والقدرات الذاتية
تواصل معي بالأمس شخص يستشيرني في قرار يدرسه حول الانتقال من العمل في جهة حكومية إلى العمل في شركة كبرى في القطاع الخاص. اعتذرت عن تقديم أي مشورة مباشرة له لأن مثل هذه الاستشارات تعتبر في غاية الحساسية الشخصية وآثار اتخاذها ممكن تنعكس على مستقبله.
في نفس الوقت، ذكرت له رأيي باختصار حول بيئة العمل في السعودية (وربما في أغلب دول العالم) وهي تنقسم إلى 5 بيئات عمل:
- القطاع الحكومي: وظيفة آمنة في الغالب، براتب معقول، لا تتطلب الكثير من الجهد والمهارات والخبرات. الجانب الابتكاري والإبداعي فيها متدني جداً بشكل عام إلا في حالات جهات حكومية نادرة. البيروقراطية وبيئة العمل الحكومي في العادة طاردة للإبداع والابتكار لغياب المنافسة والاحتياج لذلك. والخبرات التي يتم اكتسابها لا توازي السنوات التي يقضيها الشخص في الوظيفة الحكومية. بشكل عام، أمان وظيفي مع قبر للقدرات.
- القطاع الخاص (الشركات): راتب متدني في البداية ربما، ولكن يصل لأرقام جيدة مع الوقت إذا استطاع الفرد إثبات كفاءته، وكانت شركته ذات بيئة عمل صحية تسمح للشخص الذي يعمل على تطوير ذاته ومهاراته أن يترقى فيها. ربما ليست بأمان العمل في القطاع الحكومي، ولكن يمكن للفرد تحقيق ذاته من خلال العمل في القطاع الخاص. أسوأ ما في القطاع الخاص هو الجهد المبالغ فيه أحياناً واحتمالية الاحتراق الوظيفي، وانعكاس الجانب المالي على الشخص بحيث تصل للبعض الحال أن يرى الحياة ككل من خلال منظور مالي (كم ربحنا وكم صرفنا).
- القطاع الخيري (القطاع الثالث): ارتياح نفسي ربما أكثر من العمل في القطاعين السابقين لاستشعار الأثر المباشر للعمل في حياة الفئات المستهدفة. العائد المالي يعتبر الأضعف في الغالب، والجانب الابتكاري متدني في أغلب الجهات. غياب احترافية القطاع الخاص وغياب أمان القطاع الحكومي. مناسب لشخص غير طموح مهنياً ويفضل الأثر النفسي المباشر.
- الشركات الحكومية: قطاع هجين غريب ظهر عندنا مؤخراً بتزايد. يجمع بين أمان الوظيفة الحكومية، ورواتب القطاع الخاص المرتفعة. احتمالية الإبداع والابتكار فيه أفضل من القطاع الحكومي ولكن في الغالب أدنى من القطاع الخاص. بما أنها شركات حكومية فإن الدخل المالي ليس بتلك الحساسية التي هي عند شركات القطاع الخاص. لا أعرف بين الشركات الحكومية إلا شركة واحدة ربما يمكن لها المنافسة على المستوى المحلي والإقليمي. من السلبيات المتوقعة شعور زائف بالنجاح والتميز يمكن أن يتلاشى لو رفعت الحكومة يدها عن شركتها الحكومية وجعلتها تتنافس مثل غيرها في السوق.
- الشركات الناشئة: بحسب مرحلة الشركة الناشئة، إذا كانت في بداياتها فالمتوقع أن يكون الراتب ليس مثل القطاعات السابقة ولكن يرتفع سريعاً مع نمو الشركة السريع، مساحة الابتكار والإبداع عالية جداً للاحتياج لها، وكسب الخبرات فيها عظيم ولا يقارن مع الجهات السابقة نظراً لاضطرار الفرد للعمل في عدة أدوار في نفس الوقت والتعلّم بشكل سريع إذا كان جاهز لذلك. الأمان الوظيفي ربما يكون الأدنى مقارنة مع باقي القطاعات نظراً لارتفاع احتمالية فشل الشركة الناشئة، ولكن حجم الخبرات التي يجنيها الفرد ممكن تجعل انضمامه لشركة أو مجال آخر سريع نظراً للحاجة لأشخاص مثله. حجم ضغط العمل في العادة يكون أكبر من باقي القطاعات.
يعتمد قرار الشخص في الانضمام لأي قطاع وجهة على عوامل كثيرة، وأحدها هو المرحلة التي يدرس فيها اتخاذ القرار. هل لازال في بداية حياته ويبحث عن مكان يجني فيه الخبرة ويتعلم سريعاً حتى يطور نفسه وقدراته؟ أم يبحث عن أمان وظيفي فقط ومستعد يتنازل عن كل شيء الآن مقابل ذلك؟
منذ تخرجي من الجامعة في 1999 لم أعمل في أي وظيفة حكومية أو خاصة، حيث قضيت عمري كله في تأسيس وإدارة مشاريعي الخاصة، ولذلك حتماً لست الشخص المناسب للاستشارة في الحقل والمسار الوظيفي.
ولكن الذي أتوقعه ومن خبرة 20 عام في مجال الشركات الناشئة، أنه لا يوجد حقل عملي يمكن للمرء استكشاف نفسه وقدراته وشغفه وينجز فيه مثل العمل في الشركات الناشئة ما دام مستعد للتعلّم وخوض التجارب المتتالية. ولكن عليه أن يكون مستعد لدفع الثمن، وهو التعب والإرهاق أكثر من أي مكان آخر. أمّا الوظيفة الحكومية فيجب أن تكون دائماً آخر الخيارات أو خارجها.