إذا أردت أن أضعك في قائمتي السوداء، فاطلب منّي أن أشاركك سرد تجاربي في الحياة، سواءً كان ذلك في لقاء خاص أو في بودكاست أو ملتقى عام.

إذا اتفقنا أن النجاح لا يأتي إلا بعد مشوار طويل من الكد والكرف والكرب المرير، فالمتوقع وقت سرد المرء قصته، أن يُصاب بالمغص والغثيان والصداع والإسهال، ويطلبون له سيارة الإسعاف، لأنّه حتماً سيتذكّر لحظات اليأس والشدة والقنوط، عندما سار على حافة قمم جبال الموت، هو وتجاربه مراراً.

مشاركة التجارب مع الآخرين بصدق مطلق وتجرّد، تحتّم على المرء أن يعود للوراء، ويسترجع ذكريات ولحظات لا يرغب في استرجاع كثير منها، فقد بذل جهداً في تجاوزها ونسيانها، حتى يتمكّن لأن يصل إلى ما وصل إليه اليوم من هدوء وسلام. وإذا اختار ألا يشارك الأسرار والتفاصيل الموجعة، ستبقى “قصة نجاحه” منقوصة، أو وهمية، وسيخدع الطرف الآخر الذي يرغب في سماعها، لأنّه لم يذكر أمامه كل شيء.

هناك عدد من الأسباب تجعل قصص النجاح التي يسردها أصحابها، هي قصص يجب ألا يعوّل عليها.

ذاكرة المرء مصدر مشكوك في أمرها

تخيل معي ثلاثة أشخاص سافروا في رحلة ما سوياً، وبعد ستة أشهر من عودتهم، جلست مع كل واحد منهم على انفراد، وطلبت منه سرد قصة رحلتهم بالتفصيل؛ من لحظة ولادة فكرة الرحلة، ثم المناقشات والتخطيط والتجهيز، وبعد ذلك السفر، ثم العودة.
ستجد بالتأكيد نقصاً وخللاً في سردهم. كل واحد منهم سيسرد تفاصيل وأمور لم يذكرها الآخر، وربما بتراتبية مختلفة، وسيتجاهل تفاصيل مهمة ذكرها الآخران. وعندما تذكّره بتفاصيل تجاهلها، ربما سيؤكدها، ويتعذر بالنسيان -وهو صادق-، أو ينفي حصولها من الأصل، رغم إجماع الآخرين عليها.
كل واحد منهم يعتمد في سرده على ذاكرته، وعلمياً معروف أن الذاكرة مخادعة، تنسى وتتناسى، وتجحد كذلك. ولذلك فهي ليست طرفاً محايداً موثوقاً، بل طرفاً يجب الحذر منه، وهذا طبعاً يعتمد بحسب حساسية الموضوع.
فما بالك عندما يتربّع صديقنا في جلسة خاصة، أو على أريكة بودكاست، وينطلق لساعات في حديث متواصل، معتمداً على ذاكرته، في سرد قصص وأحداث مشوار استمر سنوات! حتماً ستخونه ذاكرته في مواضع وأمور مهمة. وإذا كان محاور البودكاست أو الندوة من النوع الكسول، بحيث لم يبحث سلفاً عن الشخص والموضوع، ولم يجهز أسئلة مناسبة، فهذا سيجعل الوضع أسوأ من ناحية دقة السرد.
ربما تستمتع بمشاهدته وسماع ما يقوله من باب الاستئناس، مثل سوالف المجالس يُؤْخَذُ منها ويُترك، ولكن يجب التردد والحذر من اتخاذ قرارات مهمة تحت تأثير وقع ما سمعته.

الذاكرة تتجاهل من الأمور ما يُحرج صاحبها

الإنسان الطبيعي لا يرغب أن يعرف الناس تفاصيل محرجة عنه؛ منعطفات فشل، وعود كاذبة، مراحل شعور بالضعف، تجاوزات أخلاقية، سرقة جهود آخرين، إلخ.
وعندما يقوم شخص بسرد قصة نجاحه، ستتجاهل ذاكرته في الغالب هذه الأمور، وتقلّل من أهميتها، رغم احتمالية أنّ أحد ممارسته غير الأخلاقية تلك، هي من أدى دوراً أساسياً في “النجاح”.

ليس كل ناجح هو محلل ذكي

جرّب أن تشاهد لاعبين يقدّمون تحليلاً لمباراة أنهوها للتو مع فريقهم، أو بعد مدة طويلة. لا أبالغ إذا قلت إنَّك ستجد أغلب طرحهم قاصر أو خاطئ فنياً.
بسبب أنه كان جزءاً من المباراة، فإن ذاكرة اللاعب وعواطفه ستجعله غير محايداً. حتى لو أشاد بالفريق المنافس، فإنّه في الغالب سينسى أو يتجاهل تفاصيل وعوامل أساسية أثّرت في نتيجة المباراة. ربما بسبب ضعف مهاراته التحليلية، أو لأن انغماسه في تفاصيل المباراة وأجواءها طغى على تحليله، فجعله يقلّل من عناصر مهمّة، ويتجاهلها، ويعظمّ من أمور أخرى، ليس بالضرورة أن تكون أثّرت في النتيجة.
هذا ما يحصل مع صاحب قصة النجاح، فبحكم انخراطه الوجودي في تجربته، يصعب عليه أخذ خطوة للخارج، والنظر والتمعن عن بعد في أسباب ومؤثرات أخرى ربما أدت دوراً كبيراً في نجاح تجربته.
ثم إنَّ سردية نجاحه التي يطرحها اليوم، هي سردية بناها مع نفسه مع الوقت بالنظر إلى الخلف، كل مرة يطرح فيها قصته مع أحد، فإنّ ذاكرته تضيف وتحذف منها أموراً، حتى يصبح لديه في النهاية قصة نجاح منطقية وحتمية تسوّغ نجاحه.
اجلس مع شركائه أو كبار موظفيه، الذين عاشوا تفاصيل التجربة معه، ستجد في سرديتهم كثير من التفاصيل والأمور المهمة التي تجاهلها “الناجح” بقصد أو من دون قصد.
ولذلك هناك “باحثين” و “محللين” و “نقّاد” في كافة المجالات. وهم أشخاص ثقال الظل، لا يسلّكون، ولا يمرّرون أي كلام، ولا يسلّمون به مثل الآخرين، دورهم و “لقمة عيشهم” هو أن يستخدموا أساليب بحثية علمية لدراسة الموضوعات والقصص والظواهر، ثم يخرجون بنتائج وتحليلات يمكن الاستفادة منها.
وليس بالضرورة أن يكون لديهم قدرات ومهارات تساوي ما يملكه الشخص موضع الدراسة، حتى يحكموا على قصته وإنتاجه، فمهاراتهم تتركّز في البحث والدراسة، وليس الفعل نفسه.
ولذلك لا نستغرب عندما نرى أن أغلب المحللين الكرويين الجيدين كانوا ربما لاعبين ومدربين فاشلين مقارنة مع الذين يحلّلون أداءهم، والناقد الأدبي الجيد ربما لا يعرف كتابة رواية لافتة، والمحاضر الجامعي في مجال الإدارة ربما لا يعرف يدير شركة من ثلاثة فروع وخمسون موظفاً، والناقد السينمائي الجيد ربما لا يعرف أن يمثل في مشهد سينمائي واحد، لأن دورهم هو الرصد والتحليل والنقد، وليس الفعل نفسه.
إذن، لا تتفاجأ عندما ترى أن صديقنا الناجح ربما لا يكون موفقاً في تفسير وتحليل قصة نجاحه، غالباً سيكون تحليله سطحي وغير مقنع مقارنة مع ما جرى بالفعل.

لماذا إذن يسرد الناجحون قصصهم بموثوقية عالية؟

يسوّغ كثير من الناجحين أسباب ظهورهم في المجال العام، وسرد قصصهم في منابر مختلفة، بأنه لمشاركة تجاربهم وإلهام الآخرين، لعل هناك من يستفيد منها، ويبني قصته، والحقيقة برأيي أبعد من ذلك.
بالنسبة إلى البعض، ما قيمة النجاح إذا لم يعرف الناس أنه نجح؟
بعد كل هذا التعب والمشوار، لا يعرف عن نجاحه إلا عائلته الصغيرة، ومجموعة من الأصدقاء فقط، وربما المنافسين واللاعبين في مجاله؟ ماذا عن باقي العالم؟
نعود مجدداً إلى هرم ماسلو اللعين، بعد تحقيق الاكتفاء المادي، يبدأ المرء بالبحث عن التقدير من الناس. وكيف يحصل الناجح على التقدير، إذا لم يعرف الناس عن عصاميته وعظمته ومعاركه التي انتصر فيها؟
ولكن في الوقت نفسه، تحتاج الناس إلى قصص إلهام، تحتاج لأن تسمع أصوات تؤكد لهم أن النجاح ممكن. ماذا سيحصل لو اختفت هذه القصص، واختفت النماذج الملهمة؟

الموضوع يبدو لي أقرب إلى اتفاقية تواطئ غير مكتوبة بين البطل والجمهور.
أنصتوا لي وأعطوني اهتماماً وتفاعلاً وتقديراً يملأ غروري، وسأمنحكم أملاً وإلهاماً وجرعة تفاؤل تشجعكم على اتخاذ قرار خوض تجربة طالما فكرتم بها.
احضنوني وقولوا لي كم أنا رائع بعد هذا التعب، وسأسرد عليكم ما تشعرون بعده أن أحلامكم ممكنة التحقيق.

إنها اتفاقية التسليك العظمى بين البطل والجمهور؛ كل طرف يسلّك للآخر، لأن كل طرف يحتاج إلى الآخر، حتى تستمر الحياة.