أفرح كلما أجد مدونة عربية شخصية تحمل روح وبُعد ذاتي واضح، ينشر فيها صاحبها بوح أفكاره، ما يخالج شعوره، تجاربه، ويومياته بين حين وآخر.

سبب فرحي بها لأنها قليلة، فمعظم هذا النوع من المدونات هي بالإنجليزية، أتابع العشرات منها عبر الـ RSS، لأفراد من حول العالم، ينشرون فيها تدوينات ذات بعد شخصي حميمي، من النوع الذي يروق لي.

ينطلق هؤلاء المدونون في كتاباتهم من حياتهم في مجتمعاتهم الغربية، ثقافتهم واهتماماتهم تتقاطع معنا في أمور إنسانية ربما، ولكن يبقون في النهاية غرباء. العوامل والمؤثرات اليومية في حياة شخص يعيش في السويد أو كندا مثلاً، تختلف عنا. والظروف السياسية والإقليمية الضاغطة التي تحيط بهم، تختلف جذرياً عما نعايشه من حولنا. وهذا يجعل وقع كتاباتهم عليّ غريبة بعض الشيء؛ عوالم مختلفة.

هناك مدونات عربية شخصية معرفية، ينشر فيها أصحابها محتويات في مجال تخصصهم واهتمامهم؛ مثل التسويق الرقمي، التصميم، البرمجة، إلخ. يهدف أصحابها إلى تسويق أنفسهم كخبراء ومتخصصين في مجالهم، وهذا حق مشروع، وهو تدوين من النوع المناسب للمرء في بدايات حياته المهنية غالباً.

ما ينقصنا برأيي هو التدوين الذاتي، النصوص التي تبعدنا عن عالم تويتر والسوشل ميديا وباقي منصات الغثاء، أعني مثل مدونات الأستاذ عثمان والصديقين طاهر و أحمد، وآخرين غيرهم. لا يحاول أصحابها من خلالها تسويق أنفسهم كخبراء في مجال معين، أو جني عمل وأرباح على نحو غير مباشر من مدوناتهم، بل التعبير عن الذات، ومشاركة الناس تجاربهم في الحياة بوجهٍ عام.

أعترف بأن ممارسة التدوين الشخصي عبر الكتابة هي عادة أصعب بكثير من الخيارات الرقمية الأخرى.

أغلب الناس يمكنهم التحدّث عفوياً بالساعات لو أراد عبر سنابشات أو تيكتوك مثلاً، بسهولة شديدة وتلقائية، ولكنه يجد صعوبة كبيرة في الجلوس بهدوء لوحده لكتابة نص قصير مترابط من ٥٠٠ كلمة. من السهل أن يكتب المرء عشرين تغريدة في اليوم حول أي شيء، لأن تويتر عبارة عن نصوص قصيرة في الأصل، أمّا التدوين الجاد فيستهلك وقت وتركيز ومراجعة وتأمّل، وأغلب الناس ليس لديهم الرغبة في بذل ذلك.

أيضاً هناك حقيقة مشكلة ضعف التفاعل والانتشار مقارنة بباقي المنصات. نعيش عصر الفيديو والصوت والبث المباشر، أمّا القراءة المطولة فهي آخر الخيارات. يمكنك الحصول على تفاعل وانتشار كبير بمجرد نشر المحتوى في الوسائل الأخرى مثل تويتر وتيكتوك، أما التدوين الشخصي فلا تكاد تحصد من ورائه أي تفاعل، وهذا يجعل الكثير يفضّل الخيارات الأخرى على الكتابة.

وهناك همّ الخوف من الكتابة، لأنها ستدفعنا حتماً إلى البوح أمام أطراف مختلفة في حياتنا، نحسب لكل منها حساباً.
نخاف من أن تجعلنا ننكشف أمام أهلنا وأقاربنا، ربما يقرؤون لنا شيئاً، ويتشكل لديهم صورة ما لا نرغب في تشكلها عندهم.
نخاف من المجتمع، لأنّه لا أحد يحب أن يكون فجأةً تحت مجهر المجتمع، خاصةً إذا كان لديه استقلالية وآراء لا يتشارك مع الكثير فيها.
نخاف من رفاق العمل، فالأجواء الوظيفية ليست مريحة، ويكفي المماحكات والمعارك التي نعيشها هناك، ولا نرغب في أن نكتب شيئاً يلفت الانتباه لنا.
نخاف من الخطأ والمحاسبة، نكتب عن أفكار وأمور نراها مقبولة وقت كتابتها، ولكننا نعرف أن المستقبل سيأتي محملاً بظروف وسياقات مختلفة، وعندها ربما يكتشف أحداً كتاباتنا هذه، فنُحاسب عليها مجتمعياً بأثر رجعي.
وربما نخاف من أنفسنا، نخشى من منازلة ما يجول بنا من خواطر وأفكار وشعور، حتى لا نتمعن فيها، وربما نتصارع معها، ومن ثَمَّ فالأفضل تجاهلها حتى تموت وحدها.

ولذلك فإنّ الكتابة الذاتية فيها شيء من الشجاعة والمقاومة والمبادرة، نتحدّى أنفسنا بمواجهـة أيامنا وذكرياتنا وشعورنا وأفكارنا ومخاوفنا على الكيبورد والشاشة، وأمام الناس.
لا أظنني نشرت نصاً إلّا بعدما أكون كنت قد فكرت كثيراً إذا كان هناك ردود أفعال محتملة حوله، من مختلف الأطراف التي ذكرتها سابقاً.
ماذا لو قرأ قريباً لي ما أكتب وأوثق؟ ماذا عن الموظفين في العمل ونظرتهم لي؟ شركائي؟ المستثمرين معي؟ المتابعين في تويتر؟

ربما يكون بعض القلق والهواجس مشروعة، ولكن الحقيقة أننا نضخم منها كثيراً، ونصنع الأوهام والمخاوف على نحو مبالغ فيه، كل ذلك حتى لا نكتب، فالكتابة الذاتية ليست عادة سهلة.

الأفضل دائماً ألّا تفعل شيئاً؛ ألّا تكتب، لا تبوح، لا توثق شيء عنك، لا تفكّر بصوتٍ عال، لا تجعل الناس يعرفون ما يجول في عقلك وخاطرك، هذه الطريقة الوحيدة التي تضمن لك عدم احتمالية الخطأ، وعدم المحاسبة، وعدم حصول ردة فعل أو تغيير في صورتك عندك الآخرين.

ولكنّي لا أتخيل شكل الحياة عندما تعيش فيها كصندوق مغلق، تستهلك كل ما تلامسه حواسك، ولا يكاد يصدر عن داخلك شيء نحو العالم، حتى وإن كان فكرة أو نص يوثق هواجسك، كهذا النص التعيس.