تخطى الى المحتوى

دور وسائل الإعلام الغربية في الترفيه عن شعوب الأنظمة الشمولية الحاكمة

فؤاد الفرحان
فؤاد الفرحان
دور وسائل الإعلام الغربية في الترفيه عن شعوب الأنظمة الشمولية الحاكمة

كان يا ماكان، كان هناك دولة اسمها المانيا الشرقية. ولدت هذه الدولة في 1949 وانتهت في 1990، أي أنها عاشت حوالي 40 عام فقط، وهو عمر قصير جداً بعمر الدول.

سعياً للحفاظ على حكمهم الحديدي والسيطرة على شعب المانيا الشرقية، اهتم مسؤولو الحكومة والحزب الحاكم بعمل دراسات دورية تسعى لفهم المواقف السياسية لشباب المانيا الشرقية للتأكد من مدى قناعاتهم وأفكارهم وانتمائهم للنظام الحاكم.
المعهد المركزي لأبحاث الشباب Central Institute for Youth Research والذي تأسس عام 1966 كان الجهة الحكومية الوحيدة التي تقوم باستقصاء الآراء وجمع البيانات وانتاج الدراسات التي تدور حول شباب المانيا الشرقية 1.

استقصى المركز بين 1966 و 1990 آراء الشباب وأنتج مئات الدراسات التي تدور حول المواقف الفكرية والسياسية لطلاب الثانويات والجامعات، والعاملين من فئة الشباب. نتائج الدراسات بالطبع كانت سريّة ولا يطلع عليها سوى أصحاب صلاحيات خاصة في الحزب الحاكم. الاستبيانات التي بنيت عليها دراسات الشباب كانت تسألهم إذا كانوا يتفقون أو لا يتفقون مع عبارة “أنا أثق في المدرسة الفكرية الماركسية اللينينية”، وعبارة “أشعر بالانتماء لالمانيا الشرقية”، وغيرها من العبارات 2.

بعد سقوط جدار برلين والنظام الدكتاتوري الحاكم في المانيا الشرقية معه، تم رفع السريّة عن محتويات المركز وكذلك باقي مراكز الدراسات. وبالتالي هرع الباحثون الغربيون إلى المانيا الشرقية للإطلاع على كنوز الإحصاءات والدراسات لمحاولة فهم تفاصيل حياة الناس تحت ظل نظام الحكم الشمولي القاسي.

في 2006 نشر باحثان المانيان نتائج دراسة مثيرة أجرياها تحت عنوان “أفيون الشعوب: كيف يساهم الإعلام الغربي في حفظ استقرار أنظمة الحكم الشمولي3. بنيت هذه الدراسة على بيانات وإحصاءات ودراسات المعهد المركزي لأبحاث الشباب التابع لنظام المانيا الشرقية الحاكم والتي أصبحت متاحة للجمهور والباحثين بعد انهياره.
فكرة دراسة هوغلر لتز و جين هينميوللر هذه كانت تتمحور حول معرفة أثر قنوات التلفزة الغربية التي كانت تصل إلى بعض سكان المانيا الشرقية ومدى تأثيرها في قناعات الشباب الفكرية والسياسية، وانعكاس ذلك على مواقفهم وولائهم لنظام المانيا الشرقية الشمولي الحاكم، ونظرتهم كشباب للحياة في المانيا الشرقية ككل.

بعكس المتوقع، خلص الباحثان بناءً على الأرقام ودراستهما العلمية أن شباب المانيا الشرقية الذين كان يصل لهم بث محطات التلفزة الغربية ويتابعوه بشكل مستمر كانوا أكثر رضا وقناعة بالنظام الشمولي الحاكم، أما الشباب الذين لم يكن يصل لهم البث الغربي فقد كانوا أكثر اهتماماً بالسياسة، وأكثر نقداً للحكومة، وأكثر من يتقدم بطلبات الخروج (الهجرة) من البلد.

علق الباحثان في دراستهم على هذه المفارقة بقولهما:

“يبدو أن التلفزيون الرأسمالي الغربي كان الأفيون المخدر لشعوب الأنظمة الشيوعية، وهي الشعوب التي كان يقول رمزها كارل ماركس بأن الدين هو الأفيون الذي يخدر الشعوب الغربية! يا للسخرية!” 4.

الهروب من الواقع

لا يمل السياسيون والمنظرون الغربيون من التأكيد على ما يصفونه بالدور الكبير الذي قام به الإعلام الغربي في انهيار منظومة الحكم الشيوعي ليس في المانيا الشرقية لوحدها، بل كل الدول التي كان يصل لها بث المحطات الغربية. ولكن الحقيقة كما يبدو من هذه الدراسة بأن تلك الرؤية مبالغ فيها، بل العكس هو الصحيح كما يرى الباحثان، حيث وجدا بأن الإعلام الغربي لعب دور المخدر والمثبط للشعوب الواقعة تحت الحكم الشمولي بدلاً من المحرّض لها على التغيير. فسّر الباحثان مشاهدة الالمان الشرقيين لمحطات التلفزة الغربية وادمانهم عليها بأنه “هروب من الواقع”:

“سمحت محطات التلفزة الغربية لسكان المانيا الشرقية بأن يهربوا من حياتهم اليومية التي كانوا يعيشونها تحت الحكم الشمولي الصارم. لقد جعلت حياتهم أكثر قابلية للتحمّل، وجعلتهم يشعرون أن حكومتهم مقبولة نوعاً ما..”.

يؤكد الباحثان في مفارقة ملفتة بأن:

“مشاهدة المواطن الالماني الشرقي لمحطات التلفزة الغربية واطلاعه على برامجها زاد من دعمه لحكومته” 5.

الكاتب والمعارض الالماني الشرقي كريستوفر هين قال في لقاء صحافي معه عام 1990:

كانت مهمتنا كناشطين في التواصل واقناع الجماهير صعبة، كان الشعب يعمل بشقاء طوال النهار، وعندما يحل المساء يهاجر إلى الغرب الساعة الثامنة من خلال التلفزيون 6.

ترفيه الإعلام الغربي عن شعوب الأنظمة الشمولية

يقول إيفجيني موروزوف في كتابه الرائع والمزعج “ الشبكة : الجانب المظلم لحرية الإنترنت7:

“وصول بث محطات التلفزة الغربية إلى مواطني المانيا الشرقية، ومشاهدتهم للمحتوى الترفيهي الرائع الذي كانت تنتجه وتعرضه وسائل الإعلام الغربية وهوليود، تسبب في تراجع اهتمامهم بالسياسة على الرغم من مشاهدتهم بين الحين والآخر ما يعرض في تلك الوسائل من أخبار وقصص عن استبداد وظلم حكومتهم في المانيا الشرقية. محطات التلفزة الغربية جعلت حياة مواطني المانيا الشرقية مقبولة نوعاً ما وأكثر قابلية للتحمل، وبالتالي تسببت في إضعاف نضال حركات المنشقين والمعارضين بينهم”

يؤكد موروزوف بأن بدايات حركات العصيان والقلاقل في المانيا الشرقية بدأت في المناطق البعيدة التي لم تكن يصل لها بث محطات التلفزة الغربية، حيث كان يشعر الناس بأن حياتهم لا تطاق، بعكس الحال في المناطق التي كان يصلها البث وأصبحت حياة سكانها قابلة للتحمل.

كانت الهوائيات التي تعتلي منازل سكان المانيا الشرقية لتلقط البث التلفزيوني في أغلبها متجهة نحو الغرب. لم يكن أحد يشاهد تلفزيون المانيا الشرقية الرسمي، كانوا يجدونه مملاً. بعد بناء جدار برلين في 1961 والذي قسم المدينة إلى جزئين، قامت فرق شباب الحزب الشيوعي بالصعود إلى أسطح منازل السكان وتكسير الهوائيات التي تتجه نحو الغرب في عمل (احتسابي) حزبي شيوعي. لم يتوقف نشاط فرق الشباب الشيوعي المحتسب إلا بعد تصاعد تذمر السكان بشكل واضح مما دعا الحزب الحاكم لمنع هذه التصرفات.

في منتصف الثمانينات بدأت الحكومة الالمانية الشرقية تستقبل طلبات متزايدة من المواطنين للسماح بتركيب أطباق البث التلفزيوني (الدش) والتي تسمح باستقبال المحطات الغربية. كان النظام يمنع شراء وتركيب الدش إلا بإذن رسمي. أغلب الطلبات كانت من سكان الأجزاء التي لم يكن يصل لها البث التلفزيوني الغربي عن طريق الهوائيات Antenna. اتجه السكان لشراء أجهزة الدش بالتهريب من المانيا الغربية و هنغاريا، وكان مفتشي الحكومة يفرضون غرامة على كل مالك منزل يجدون لديه دش ويطلبون منه إزالته. لم يكن السكان يدفعون الغرامة وفي أغلب الأحيان يقومون بإزالة الدش مؤقتاً ثم إعادة تركيبه لاحقاً.

في 1988 طلبت البلدية في Marienberg من سكان المدينة إزالة أطباق استقبال البث وعددها أكثر من 4000. عندما حاولت البلدية تطبيق النظام، خرج السكان في مظاهرات ضخمة ومقاومة جادة للقرار تسببت في أن يرسل مجلس الحزب الحاكم في المدينة إلى الحكومة المركزية تنبيهاً بأن الوضع خطير وينصحون بالتراجع عن تطبيق القرار.
في مدينة Weissenberg حاولت الحكومة تطبيق نفس القرار، ولكن العمدة وأعضاء الحزب الحاكم في المدينة أرسلوا للحكومة المركزية خطاباً يقولون فيه بأن سكان المدينة أصبحوا أكثر رضا و هدوءاً وحباً للنظام الحاكم منذ أن انتشرت أطباق البث التلفزيوني وأصبحوا يشاهدون المحطات الغربية، حتى أن طلبات الهجرة تراجعت بشكل حاد! 8

تجربة المانيا الشرقية تظهر بأن تأثير ودور الاعلام الغربي في بلدان الأنظمة الشمولية أكثر تعقيداً والتباساً مما كان يعتقد الغرب. يرى موروزوف بأن تغطية الاعلام الغربي المؤثرة في فترة أحداث سقوط جدار برلين جعلت الكثير يعتقد بأن الاعلام الغربي كان يلعب نفس الدور ونفس التأثير طوال الحرب الباردة، وذلك ليس إلا حلم طوباوي خيالي، فقد كانت تخدم النظام الشمولي الحاكم في الترفيه عن الشعب وإبعاده عن السياسة.

أرى بأن القنوات الفضائية العربية ذات المحتوى الغربي ( مجموعة قنوات MBC و غيرها) و القنوات الغربية الترفيهية ( OSN وغيرها) تلعب في العالم العربي اليوم نفس الدور الذي كانت تلعبه محطات التلفزة الغربية مع شعب المانيا الشرقية؛ الشعوب العربية تفر إليها لتجد الترفيه الذي يجعلها تهرب من واقعها المرّ ويتسبب في إبعادها عن السياسة.


  1. Opium for the Masses: How Foreign Media Can Stabilize Authoritarian Regimes 
  2. المصدر السابق. 
  3. المصدر السابق. 
  4. المصدر السابق. 
  5. المصدر السابق. 
  6. The Net Delusion: The Dark Side of Internet Freedom 
  7. المصدر السابق. 
  8. المصدر السابق. 

تدوينات أخرى

للأعضاء عام

في حب أبحر، ولماذا لم أنتقل إلى الرياض!

بنيت منزلي في "أبحر" قبل 12 عاماً، اخترت قطعة أرض قريبة من أطول برج في العالم، تعثّر البرج، وأظنه مات، ولكن جمال الحيّ ازداد مع السنوات

في حب أبحر، ولماذا لم أنتقل إلى الرياض!
للأعضاء عام

أفضل جهاز للقراءة الالكترونية لم يعد الكندل، أهلاً بالأنيق Palma

اعتدت كل عام أن أهدي نفسي شيئاً ما مميزاً في عيد رمضان، وهذا العام كنت محظوظاً بشدة عندما اشتريت هذا الجهاز البديع.

أفضل جهاز للقراءة الالكترونية لم يعد الكندل، أهلاً بالأنيق Palma
للأعضاء عام

ما هي الضغوط التي يواجهها حارس روضة أطفال في الخرخير؟

إن مسيرة المؤسسين هي سلسلة متصلة من الأزمات والصداع والقلق المستمر، هي مسيرة مواجهة تحديات وحلّها، تحديات تطوير المنتج/الخدمة على نحو مناسب للسوق، تحديات الوصول للعملاء وإقناعهم، تحديات استقطاب الموظفين المناسبين، تحديات إقناع المستثمرين، وتحديات التوسع المناسب في سرعته وشكله لإمكانياتهم وقدراتهم.

ما هي الضغوط التي يواجهها حارس روضة أطفال في الخرخير؟