لماذا تواصل الكتابة وبالكاد يقرأ لك أحد؟
حاول أن تهرب من الحقيقة ما استطعت، في نهاية الأمر ستصدم بها، فالحقيقة أقوى وأطول عمراً من الأوهام كلها.
مهما بذلت في إتقان كتاباتك وحرّرتها، فإنّه لا يكاد يقرأ مدونتك أحداً، أو ربما ليس بالعدد الذي تحب. ربما وقع البعض بالصدفة على رابط في تويتر لأحد تدويناتك، أو وصل لها صديق بعدما شاركته ما كتبت عبر رسالة واتساب.
فإذا كان ما يشغل عقول 8 مليارات نسمة هو أي شيء، وكل شيء، إلا تدويناتك، وأيقنت أنه لا أحد ينتظر إبداعك كما تتخيل، فهل التدوين مضيعة وقت؟ بالتأكيد ليس ذلك.
التدوين يعودك على التركيز والوضوح مع أفكارك، فيجعلك تتدارسها وتنظمها، وتصقل منظورك. عندما تكتب، فإنك ستتعود أن تفكر بشكل أفضل. وعندما تفكر بشكل أفضل، تخلق بشكل أفضل. وعندما تبدع في ما تخلق، تهدأ روحك وينصقل ذهنك.
أكتب لأن الكتابة تساعدني على صقل الصفاء الذهني. فكرة أو خبر أو ذكرى أو موقف ما يشغل عقلي لفترة زمنية قصيرة أو طويلة، أقرر الكتابة عنها؛ لأن الكتابة تجبرني على التمعّن والتفكير فيها بعمق، وبعد النشر إذا وكأنني أطلقت سراحها، حرّرتها وتحرّرت منها، وأفرغت المساحة التي كانت تشغلها من تفكيري.
أكتب كذلك لشخصي المستقبلي، هناك شعور جميل يتملّكني عندما أعود إلى تدوينات قديمة، وأرى كيف كنت أفكر وقت كتابتها، وكيف صغت فكرة ما بطريقة جيدة. مشاهدة الصور القديمة، ربما تثير بعض مشاعر الحسرة على عمر مضى، أما قراءة تدويناتك القديمة، فتترك رضى وانطباعاً جميلاً عندك عن نفسك.
أكتب للمحافظة على مهارة التفكير والتحليل والصياغة. الناس كلها تستطيع الكلام، القليل هم من يقول كلاماً جيداً بعد تمعن، والنادر منهم من يقوى على تحرير كلامه بإيجاز على شكل نص بديع. هناك ثقة كبيرة تكتسبها في نفسك عندما تتقن الملاحظة والتفكير والتأمل والتحليل، ثم تعبّر عن ذلك بحديث منطوق جميل، ونص مكتوب لافت. إهمال الكتابة سيضعف قدراتك ويعرّضها للتخريب، مثلما أن ترك الرياضة سيضعف جسدك تدريجياً ويعرّضه للوهن.
أكتب لأنني أحب شعور أنّ لدي هواية جانبية أحبّها وأصقلها مع الوقت. نحتاج تحت ضغط الحياة العملية اليومية إلى هواية ما، تعتبر بمثابة المتنفس لنا، نشغل فيها تفكيرنا بعيداً عن مشاكل وتحديات العمل، وتغرس شعوراً إيجابياً في داخلنا عندما نشعر بأننا تتقدم فيها، مما ينعكس إيجاباً على حياتنا العملية.
وأخيراً أكتب لشخص لا أعرفه ربما وقع بالصدفة على ما أكتب، فوجد أنني أتحدث عن أمرٍ يشغل باله كذلك، تطابقت أفكارنا فتشكّل بيننا حبل ود وصداقة عن بعد. من الجميل أن تجد آخرين يتشاركون معك الآراء والذكريات والمواقف، حتى وإن كانوا من أوطان بعيدة وثقافات مختلفة. في نهاية الأمر ما يجمع الناس هو أكبر بكثير مما يفرقهم، والأفكار والهموم والطموحات حق مشاع نشترك فيه جميعاً.
نحن نعيش في عالم رقمي سيطرت فيه الشبكات الاجتماعية التي تقدّم الفيديو والصوت على النص والقراءة. وأصبح الوضع الافتراضي لدى الناس للحصول على المعلومات والمعارف والترفيه هو عبر المشاهدة والاستماع، وليس القراءة. هذا تحول جذري عن أيام الإنترنت الأولى التي كانت فيها المواقع والشبكات والمنتديات لا تكاد تحتوي إلا على النصوص المقروءة، وهو تحول لا رجعة عنه.
فلا تكتب لأجل كسب القراء والجمهور، لأنه لن يأتي أحد. واكتب لنفسك، فهي خير من تصادق وتستحق وقتك وجهدك.
- بعض أفكار هذه التدوينة مستلهمة من Why Blog If Nobody Reads It?
- تدوينة سابقة: الكتابة تُتعِب، ولكنها تواسي.. الكتابة كاستثمار ذاتي بعيد المدى