عالم الأمس: ماذا لو عاد ستيفان زفايغ ورأى ما يفعله قومه اليوم في فلسطين؟

ما فعله ويفعله اليهود في الشعب الفلسطيني لا يختلف عما فعلته أوروبا في اليهود؛ احتلال وتطهير عرقي وتشريد واغتصاب لكافة الحقوق الإنسانية.
نعرف ما فعله اليهود في فلسطين منذ 1948، والواقع اليوم يؤكد ما نعرفه سلفاً، ولا جديد فيه. ولكن نحتاج إلى فهم هذا الانحياز الغربي المتطرّف، والدعم الجنوني المطلق الذي يقدمه الغرب وأمريكا منذ تفجّر الأحداث!
تبدو تصرّفات الغرب وكأنّها من باب التطّهر والتعويض عما فعله أسلافهم في اليهود، على حسابنا نحن العرب والمسلمون.
لفهم عقدة الغرب هذه، يمكن الرجوع لكثير من الكتب التاريخية والمذكرات والأفلام والأعمال الأدبية التي وثقت ما فعلته أوروبا في اليهود. أحد أفضل الأعمال التي مرّت عليَّ هي مذكرات ستيفان زفايغ “عالم الأمس”.

قرأت جميع أعمال ستيفان زفايغ المترجمة للعربية، رواياته عظيمة من ناحية السرد والأفكار، ولكن تبقى تحفته “عالم الأمس” أعظم أعماله برأيي. يوثّق فيها سيرته الذاتية، ولادته لوالدين يهوديين ثريين، حياة الرفاهية المطلقة في النمسا قبل الحرب العالمية الأولى، معايشته للحربين العالمية، وتحوله إلى لاجئ طريد، حتى لجوءه الأخير إلى البرازيل، وأخيراً انتحاره بعد إنهاء كتابة سيرته هذه، وقبل هزيمة هتلر بعامين!

يقول زفايغ موضحاً وضعه وفجيعته:

«كنت قد وُلدت عام 1881 في أحضان إمبراطورية كبيرة وجبارة، ولكنني أُجبرت على تركها يوماً ما وكأني مجرم! كل أعمالي الأدبية في لغتها الأصلية (الألمانية) أُحرقت وتحولت إلى رماد (على يد النازيين)، وبعدئذ أصبحت مشرداً غريباً في كل مكان، أوروبا ضاعت بالنسبة لي، لقد كنت شاهداً على أكبر هزيمة للعقل في التاريخ. والسبب هو طاعون الطواعين والداء العضال: عَنيتُ التعصب القومي الشوفيني الأعمى، لقد سمّم تلك الزهرة المتفتحة اليانعة للثقافة الأوروبية».

وعندما فتحوا وصيته بعد انتحاره وجدوا مكتوباً فيها:

«قبل أن أغادر هذه الحياة بمحض إرادتي وبكامل قواي العقلية والنقلية أشعر بالحاجة إلى أداء واجب أخير: إرسال أعمق آيات الشكر والاعتراف بالجميل إلى دولة البرازيل التي احتضنتني بعد أن انتحرت أوروبا؛ موطني الروحي، ولكن بعد ستين سنة من العمر تلزمني قوى خاصة جبارة لكي أستطيع بناء حياتي من جديد، وأنا استنفدت قواي بسبب سنوات التشرد الطويلة في البلدان والدروب، لهذا السبب أعتقد أنه من الأفضل أن أضع حداً لحياتي، ورأسي عالية مرفوعة. أخيراً أحيّي جميع أصدقائي وأرجو لهم أن يلمحوا أول خيوط الفجر بعد كل هذا الليل المدلهم الطويل! أما أنا فقد نفد صبري، ولذلك قررت أن أرحل قبلهم».

عادتي عندما تمرّ منطقتنا بين حين وآخر بأزمات وحروب، أن أخفف بشدة من المتابعة اللصيقة لما يحدث، واستبدال المتابعة اللحظية للأخبار بقراءة كتب تسرد فترات حرجة مشابهة للفترات التي نعيشها.
العودة للتاريخ تساعد في تفسير ما يحصل الآن وتحليله، وربما تمنحنا لمحات عن المستقبل، وأين تتجه الأمور.
أتسائل، لو عاد زفايغ وشاهد ما يفعله قومه اليوم، هل كان سيقف معهم هو كذلك؟ أم مع الحق؟ لا أعلم، ولكن أترككم مع مقدمة كتابه البديع.


مقدمة “عالم الأمس”
ستيفان زفايغ
دار المدى
الطبعة الأولى 2007 م

لم أعدّ نفسي في أي يوم شخصاً مهماً بحيث أُغرَى برواية قصة حياتي للآخرين.
كان ينبغي أن تقع أشياء كثيرة، أن تمر أحداث وكوارث ومحن تتخطى عادة حصة جيل واحد، قبل أن أتشجع للشروع في كتاب أكون فيه الشخصية الرئيسية، أو نقطة الارتكاز بالأحرى. لا شيء أبعد عن فكري من أخذ هذا الموقع البارز إلا من أجل أداء دور الراوية في محاضرة موضحة بالصور. فالزمن يقدم الصور، وأنا أنطق بالكلمات المرافقة لها ليس غير. وما أرويه، في واقع الأمر، ليس مجرى قدري الخاص، بقدر ما هو قدر جيل كامل، جيل عصرنا الذي أثقله عبء مصير قلما أثقل جيلاً آخر في سياق التاريخ. فكل واحد منا، حتى أصغرنا، وأقلنا شأناً، قد هزت أعماق وجوده انفجارات بركانية متواصلة تقريباً في أرضنا الأوروبية. ولا أعرف تفوقاً يمكن أن أدعيه على الجمهور سوى أنني، كنمساوي، ويهودي، وكاتب، ومؤمن بالحركة الإنسانية، ونصير للسلم، قد وقفت على الدوام في المواضع التي ضربتها أعنف تلك الزلازل. لقد دمروا منزلي ووجودي ثلاث مرات، وفصلوني عن الماضي وكل ما كان، ثم قذفوا بي بغتة إلى الفراغ، إلى «حيث لا أعرف»، وأعرفه حق المعرفة. ولكني لا أتأسف على ذلك.
فالإنسان الشريد يغدو حراً بمعنى جديد، إذ أن من يفقد صلاته كلها هو الوحيد الذي لا يلزمه أي تحفظ فكري. لذلك أتمنى أن أتمكن من تحقيق أحد أهم شروط التصوير المنصف للعصر، أي الصدق والحياد .
فصلت حقاً عن كل الجذور، وعن التربة التي تغذيها، كما لم يفصل أحد في الماضي إلا نادراً. وكنت ولدت في عام ١٨٨١ في إمبراطورية عظيمة وقوية تحكمها سلالة هبسبورغ. ولكن لا تبحث عنها في الخارطة، فهي قد أزيلت، وما بقي منها أثر.
وفي فيينا، الحاضرة المتعددة القوميات، والتي يبلغ عمرها ألفي عام، نشأت، ثم أرغمت على مغادرتها مثل مجرم قبل أن تنحدر من عاصمة إلى مدينة إقليمية في ألمانيا. وأما عملي الأدبي باللغة التي كتبته بها، فقد أحرق في البلاد ذاتها التي جعلت كتبي ملايين القراء أصدقاء لي. وهكذا فأنا لا أنتمي إلى أي بلاد، وحيثما حللت فأنا غريب، أو ضيف في أحسن الأحوال. فأوروبا التي اختارها قلبي موطناً قد أقدمت على الانتحار حين انقسمت مرة أخرى إلى جبهتين يحارب في «هما» الأخ أخيه. وشهدت رغما عني أفظع هزيمة للعقل، وأشرس انتصار للوحشية في كل العصور. وأقول غير مفتخر، بل شاعراً بالعار: إن تجربة التردي الأخلاقي من ذلك السمو الروحي الذي تحلى به جيلنا لم يعشها جيل من قبل. ففي الفترة الواقعة بين نمو شعر لحيتي، والوقت الحاضر الذي أخذ يخطه فيه الشيب، في نصف القرن هذا، حدثت تغيرات وتحولات جذرية أكثر مما حدث في عشرة أجيال من البشر. وشعر كل واحد منا أن ما حدث قد بلغ الغاية أو كاد ! إن حاضري، وكل يوم من ماضي، نهضاتي وعشراتي، هي من التنوع بحيث أشعر أحيانا كأني لم أعش حياة واحدة، بل عدة حيوات إحداها مختلفة ن الأخرى. وكثيرا ما يحدث، حين أتحدث سهوا عن حياتي»، أن أحمل على السؤال: « أي حياة ؟» حياتي قبل الحرب الكبرى، أم حياتي بين الحربين، أم حياتي اليوم؟ أو أجد نفسي أقول: «منزلي»، ولا أدري للوهلة الأولى أي منزل من منازلي القديمة أقصد. هل أقصد منزلي في باث Bath، أم منزلي في سالزبورغ Salzburg، أم منزل أبوي في فيينا ؟ أو أقول: «بين شعبنا»، ثم يتوجب على أن أعترف اعتراف المحبط بأنني لا أنتمي منذ وقت طويل إلى شعب بلدي أكثر مما أنتمي إلى الشعب الإنكليزي أو الأمريكي. وأنا غير مرتبط عضوياً بالأول الآن، ولم أصبح قط مرتبطاً تماماً بالثاني. إن ما أشعر به هو أن العالم الذي نشأت فيه، وعالم اليوم، والعالم الذي يتوسطهما، هي عوالم منفصلة بالكلية. وكلما رويت، في الحديث مع أصدقاء أصغر مني سناً، بعض الحوادث التي وقعت قبل الحرب الأولى ألاحظ من أسئلتهم المندهشة كم أصبح الواقع الواضح لي واقعاً تاريخياً وغير مفهوم بالنسبة إليهم. وتخبرني غريزة خفية أنهم على حق. فكل الجسور بين يومنا وأمسنا قد أحرقت.
وأنا نفسي لا يسعني إلا أن أتعجب من الوفرة والتنوع اللذين ضغطناهما في حياة واحدة، رغم أنها حياة خطرة وقلقة للغاية، ويزداد تعجبي عندما أقارنها مع نمط عيش أسلافنا. ماذا رأى والدي وجدي؟ كلاهما عاش حياة متسقة، حياة واحدة من البداية إلى النهاية، لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، لا اضطراب ولا خطر، حياة الهموم الصغيرة، والتحولات التي لا تكاد تلحظ. لقد حملهما تيار الزمن من المهد إلى اللحد في إيقاع منتظم هادئ بطيء. عاشا في البلاد ذاتها، وفي المدينة ذاتها، وفي المنزل ذاته على الدوام تقريباً. وما كان يجري في العالم لم يكن يجري إلا في الصحف، ولم يطرق الباب قط. في ذلك الزمان كانت تقع حرب في مكان ما، ولكنها لم تكن إلا حرباً صغيرة إذا ما قيست بالمقياس المعاصر. كانت تقع بعيداً عن الحدود، فلا يسمع أحد دوي المدافع، وبعد ستة أشهر كانت تخمد، وتُنسى صفحة جافة من التاريخ، ثم تبدأ الحياة المعتادة القديمة من جديد . وأما في حياتنا فلا شيء يتكرر، لا شيء يبقى من الماضي، لا شيء يرجع. لقد خُصصت بالمشاركة الكاملة في ما كان التاريخ يوزعه سابقاً باقتصاد، وبين حين وآخر، على بلد دون آخر، وعلى قرن دون غيره. ففي حين کابد جیل مشقات ثورة، وعاش آخر تجربة العصيان، وثالث تجربة الحرب، ورابع تجربة المجاعة، وخامس إفلاساً وطنياً، فإن بلداناً وأجيالاً عديدة محظوظة لم تكابد شيئاً من ذلك. أما نحن الذين بلغنا الستين اليوم، ومازال أمامنا متسع من الوقت، إذا أنصفنا، فما الذي ما رأيناه، وما كابدناه، وما بلوناه وبقينا أحياء؟ لقد شققنا طريقنا عبر كل الكوارث التي يمكن تخيلها مرة بعد أخرى، ولم نصل بعد إلى الصفحة الأخيرة من القائمة. أنا نفسي عاصرت أعظم حربين خاضهما البشر، واجتزت كلا منهما على جبهة مختلفة، الأولى على الجبهة الألمانية، والثانية على الجبهة المعادية للألمان. وقبل الحرب، عرفت أعلى درجات الحرية الفردية، وأرقى أشكالها. وفيما بعد عرفت أدنى مستوياتها خلال مئات السنين، فكُرِّمت واحتُقِرت، ونعمت بالحرية وحرمت منها، وتمتعت بالغني، وقاسيت العوز. لقد اجتاحت حياتنا جميع الخيول الضارية التي وصفها يوحنا في رؤياه الثورة والمجاعة، التضخم والرعب، الأوبئة والهجرة. وشهدت الإيديولوجيات الشعبية الكبرى تنشأ وتنتشر أمام -أعيننا- الفاشية في إيطاليا، والاشتراكية القومية (النازية) في ألمانيا، والبلشفية في روسيا، وفوق الكل التعصب القومي، هذا الوباء الأكبر الذي سمم زهرة ثقافتنا الأوروبية. لقد أرغمت على أن أكون شاهداً مكشوفاً ومخذولاً على انحطاط لا يصدق للإنسانية إلى البربرية المعادية للخير العام، والتي اعتقدنا أننا قد نسيناها منذ أمد طويل. وتبقى لنا بعد قرون أن نرى ثانية حروباً لا يعلن عنها، ومعسكرات اعتقال، واضطهاداً، ولصوصية جماعية وغارات جوية على مدن عاجزة عن حماية نفسها، وكل الفظاعات التي لم تعرفها الأجيال الخمسون الماضية، أشياء نتمنى أن تحول الأجيال القادمة دون حدوثها. ولكن المفارقة هو أنني رأيت البشر أنفسهم في المرحلة ذاتها يرتقون تقنياً وفكرياً، ويحققون بخفقة جناحين عدة أشياء لم يُسمع بها قبلاً تتجاوز ما أنجز في مليون سنة. لقد تمكنوا من إخضاع الجو بالطائرة، ونقل الكلام الإنساني في ثانية حول الكرة الأرضية، ومعه إخضاع الفضاء، وشطر الذرة، وقهر أفتك الأمراض، وتحويل ما كان في الماضي مستحيلاً إلى واقع كل يوم تقريباً. إن البشر لم يتصرفوا حتى عصرنا هذا التصرف الجهنمي، ولم ينجزوا هذا القدر من الإنجازات الخارقة في أي وقت مضى.
وأن أؤدي شهادة على هذه الحياة المتوترة المثيرة الحافلة بالمفاجآت أمر يبدو لي واجباً، لأن كل واحد كان شاهداً على هذا التحول الهائل، وكل واحد أرغم على أن يكون شاهداً. فالفرار والحياد لم يكونا ممكنين بالنسبة إلى جيلنا. كنا منجذبين دوماً إلى عصرنا بفضل تنظيمنا الجديد للتزامن. فحين دمرت القنابل منازل شنغهاي، علمنا بذلك ونحن في غرفنا في أوروبا قبل أن ينقل الجرحى من بيوتهم. وما كان يحدث على بعد آلاف الأميال كان يثب بالجملة أمام أنظارنا في الصور. لم يكن ثمة وقاية، ولا أمان من إدراك الأشياء على الدوام، والانجذاب إليها. لم يكن ثمة بلاد يمكن أن تهرب إليها، ولا راحة بال يمكن أن تشتريها، فلقد أمسكت بنا قبضة القدر دائماً وفي كل مكان، وجرتنا إلى عبثها الذي لا يتوقف. كان على الناس أن يذعنوا لما تطلبه الدولة باستمرار، وأن يتحولوا إلى ضحايا أشد السياسات غباء، وأن يتكيفوا مع أكثر التغيرات خيالية. وكان الفرد مقيداً دوماً بالقدر العام، والانسياق معه بلا مقاومة.
ومن كابد العيش في هذه المرحلة، أو بالأحرى تم اصطياده ودفعه إليها -لم نعرف إلا قليلاً من فترات التنفس- اختبر التاريخ أكثر من أي سلف من أسلافه. واليوم نقف مرة أخرى عند منعطف، عند نهاية وبداية جديدة. ولقد تعمدت أن أجعل هذا الاستعادة لحياتي تنتهي عند تاريخ محدد . ذلك أن ذلك اليوم من أيلول 1939 قد كتب آخر ديباجة للمرحلة التي شكّلتنا وثقّفتنا، نحن البالغين الستين من العمر. ولكن إذا استطاعت شهادتنا أن تنقل إلى الجيل التالي ذرة من الحقيقة عن هذا البنيان المتفسخ، فإن عملنا لن يذهب كله سدى.
أنا أدرك الظروف غير المواتية، والمميزة رغم ذلك لعصرنا، والتي أحاول فيها أن أصوغ ذكرياتي. إنني أكتبها في بلد أجنبي، والحرب قائمة، ومن غير أن تتلقى ذاكرتي أقل مساعدة. فليس في غرفة الفندق الذي أقيم فيه أي من كتبي، أو مدوناتي، أو رسائل أصدقائي. ولا يسعني أن أبحث عن المعلومات في أي مكان، لأن البريد في العالم كله قد عُطّل أو أُعيق من الرقابة، نحن نعيش متقاطعين كما عشنا منذ مئات السنين، قبل أن تُخترع السفن والقطارات والطائرات والبريد. لا شيء معي من ماضي إلا ما احتفظ به عقلي، وما عدا ذلك فهو في هذه اللحظة إما مفقود وإما عصيّ المنال. ولكن جيلنا قد تعلّم تماماً فناً مفيداً، وهو عدم التحسر على ما ضاع، ومن الممكن أن يكون الافتقار إلى الوثائق والتفاصيل مزيّة كتابي بالفعل. وذلك لأنني لا أعتبر ذاكرتنا عنصراً يحفظ وينسى اتفاقاً، بل قوة منظّمة عن وعي، ومُقصِية عن حكمة. وكل ما ينساه المرء من حياته قد قضت غريزة باطنة أن يُنسى منذ وقت طويل.
وما يستحق الحفظ للآخرين، هو ما يصرّ على البقاء فقط. لذلك اختاري، يا ذكرياتي، وتكلمي نيابة عني، واعكسي بعضاً من حياتي على الأقل قبل أن تغرق في الظلام.