ماذا يحدث مع أولئك الذين لا يستمعون إلى صوت أرواحهم؟

في “اعترافات تولستوي”، يحكي لنا الكاتب العظيم هذه القصة:

عاش عاملٌ في المدينة، وبعد أن أنهى عمله ذات يوم عاد إلى المنزل. وفي خروجه من العمل التقى بأحد المارة. قال المار: «لنسر سويًّا… الطريق من هنا، وأنا أعرفه جيداً». صدّقه العامل وسارا سوياً.
مرت ساعة على سيرهما، ثم ساعة أخرى، وبدأ العامل يعتقد أن الطريق إلى المنزل ليس من هنا. قال: «على ما أذكر، الطريق ليس من هنا». فأجاب الرجل: «هذا أقصر طريق. صدّقني! أنا أعرفه جيداً». أطاعه العامل وأكمل معه الطريق. وكلما سارا أكثر، كلما ساء الحال أكثر فأكثر، وأصبح أكثر صعوبة.
أنهى العامل كل ما معه من طعام، وأنفق كل شيء، ولم يصل إلى المنزل بعد. ولكن كلما سار لمسافة أبعد، كلما صدّق الرجل أكثر، وفي النهاية آمن تماماً أن هذا هو الطريق الصحيح. لقد آمن بهذا؛ لأنه لا يودّ العودة مجدداً، وقد أمل أن يصل إلى بيته عبر هذا الطريق. ابتعد العامل جداً عن منزله، وعاش مدة عن طويلة في فقر مدقع.
هذا ما يحدث مع أولئك الذين لا يستمعون إلى صوت أرواحهم، ويؤمنون بكلمات غريبة عن الله وقانونه.

يحدث أحياناً أن تمضي في طريق أو مشروع أو علاقة، وبعد فترة يظهر لك صوتٌ داخلي يهمس لك بأنّ هذا الطريق ليس لك، وأنه لن يأخذك إلى ما تأمله.
لا تعلم إن كان ذلك صوتاً صادقاً فتسمع له وتتراجع، أم هو صوت الخوف فتتجاهله وتواصل. ولذلك في الحالتين نطلب من الله الهداية والخيرة والمعونة، فلا يعلم الغيب إلا هو.

ويذهب بعض الباحثين إلى أن تولستوي دخل الإسلام في آخر حياته (١، ٢، ٣، ٤)، خاصةً أنه لم يخفِ إعجابه الشديد بالرسالة المحمدية، وكان يرى أن الإسلام أنقى وأكثر علواً من المسيحية.
وكلما وقعت على اسم أديبنا الكبير، تذكّرت الصورة المهيبة لضريحه الشهير، وهو ضريح يتميز بالتواضع الشديد بعكس قبور قومه.

ضريح تولستوي

وقد تحدث الكثير عن هيبة ضريح تولستوي، ومنهم ستيفان زفايغ، الذي زاره وترك هذا الانطباع البديع:

لم أر في روسيا شيئاً أروع وأكثر تحريكاً للمشاعر من قبر تولستوي. فذلك الضريح المهيب يقع بعيداً عن الطريق، ووحيداً في الغابة الظليلة. إن ممراً صغيراً يفضي إلى ربوة مستطلية من تراب لا يحرسها أحد، ولا يشاهدها أحد، إنما تظللها بعض الأشجار الكبيرة وحسب.
أخبرتني حفيدته قرب القبر أن تلك الأشجار السامقة قد غرسها هو نفسه. لقد سمع هو وأخوه نيقولاي، وهما صبيان، مثلاً من إحدى عجائز القرى، وهو أن السعادة تعمّ حيث تزرع الأشجار، لذلك غرسا، فيما يشبه اللعب، عدداً من الفروع. وبعد وقت طويل تذكر الشيخ هذه النبوءة الجميلة، فعبّر عن رغبته في أن يدفن تحت الأشجار التي غرسها. وقد دفن وفق رغبته، وتبيّن أن بساطة قبره البالغة قد جعلته أكثر قبور العالم تأثيراً في النفس.
ربوة مستطلية صغيرة وسط غابة تشكل أشجارها فوقه قبة -بلا صليب ولا شاخصة، ولا كلام منقوش. يرقد الرجل العظيم في مثواه الأخير، والذي لا أحد مثله عانى من اسمه وشهرته، يرقد مثل أي شريد، مثل أي جندي مجهول.
قد يدنو من مثواه أي واحد، فالسياج الخشبي الخفيف ليس مغلقاً. لا شيء يحرس الراحة الأخيرة للذي لم يعرف الراحة، إلا احترامُ البشر الذين يتزاحمون حول أبهة القبر مستطلعين، ولكن البساطة التي تفرض نفسها بالقوة تنفي أي فضول. الريح تلهو مثل كلمة الله فوق قبر الرجل المجهول، ولا صوت آخر. وقد يمر أحدهم من غير أن ينتبه له، ومن غير أن يدري سوى أن جسداً يستلقي هناك، جسد أي روسي في أرض روسيا.
إن مدفن نابليون تحت أقواس الرخام في Invalides، أو تابوت غوته في Furstengruft، أو الأضرحة في Westminster Abbey، لا يثير أي منها عاطفة عميقة كالتي يثيرها هذا الضريح في سكينته المهيبة، وانزوائه المشجي في موضع في الغابة لا يُسمع فيه إلا همسات الريح التي لا تحمل كلمة ولا رسالة.