كل راحة جديدة تكتسبها تصبح ضرورة إن تعودت عليها، وهذه مشكلة!
يقولون إن “كل راحة جديدة تكتسبها تصبح ضرورة"، إن أعطيت نفسك هواها وتعودت عليها. وإذا امتلأت حياتك بالضروريات، فإنّ كدّك وتعبك سيكون لأجل الاحتفاظ بما تعلّقت بها نفسك، واكتساب المزيد منها.
عندما جرّبت ستيك الواغيو أكثر من مرّة في أحد أفخم مطاعم جدة، وبدأت أتعود عليه، جعلتني لذّة الطعم أزهد في باقي أنواع اللحوم، وأعتبرها فلافل. وعندما جرّبت السكن أسبوعاً في منتجع سبعة نجوم، أصبحت أنظر إلى الفنادق على أنها شقق عزوبية. ولا أنسى أنّه تملّكني شعور أنني محافظ البنك المركزي السويسري عندما امتطيت لسويعات رولز رويس فانتوم يملكها صديق صديقي.
أحد الأصدقاء يدفع كل عام في اشتراك “التنفيذي” ما يساوي إيجار شقته، وآخر لا يعتبر الوقت صحيحاً إن لم يتأكد بنفسه بالنظر إلى إحدى ساعاته الثمينة الكثيرة. وقد ذكر لي صديقاً أن زوجته تصرف أكثر من نصف راتبها على خادمتين تربّيان طفليهما. وأعرف من يقسم مراحل حياته على سطح هذا الكوكب إلى فسطاطين: حياة “الاقتصادية”، وحياة “الدرجة الأولى”، وأصبحت نوع تذاكر السفر هي أول أمر ينظر إليه في أي عرض وظيفي يصله.
ثم إنّي نظرت في أمور النفس بعدما خضت بعض تجارب الملّذات، وقررت التعامل معها على أنها كائن حي يجب أن أفهمه وأتفاهم معه. يقول العلماء أن النفس تتقلّب بين ثلاثة أحوال؛ فمرّةً تبرز “النفس الأمّارة بالسوء”، وأخرى تكون فيها “النفس اللوامة”، وثالثة تتسيد “النفس المطمئنة”. وابتكروا مفاهيم ومصطلحات مثل “ترويض النفس”، و “تهذيب النفس”، و “تزكية النفس”.
وقد وجدت الأولى تشتهي كلّ شيء لا أملكه ويروقها، تدفعني نحو امتلاكه، وتزهّدني في ما بين يدي من نِعم وتستقلّها. بعض ما تدفعني تجاهه لا عيب فيه، ولكنّي أخشى التعود عليه، فيصبح عندي من باب الضرورة، ولذلك أحاول أن أخضع طلباتها للتمحيص، وأتساءل لماذا طلبت ذلك؟ هل هرباً من مشكلة ما أمر بها؟ أم للتغطية على شيء أو شعور نقص يمر بي؟ أحاول أن أمنع نفسي من الانقياد الفوري لها، وتنفيذ ما تطلبه لأنها فقط تشتهيه، وعندما أترك بعض الوقت يمرّ، أجد أن ما كان تطلبه وتلحّ عليه لم يكن “ضرورةً”، كما كادت أن تقنعني.
أمّا الثانية فهي بمثابة الرقيب على تصرّفاتي، تقرّعني عندما تجدني قد وهنت ولبّيت طلبات نفسي وشهواتها، واتّبعتها بدون تفكير. وأنا ممتن لوجودها، وأتقبّل لومها، وأخشى اختفاءها، فلو خنقت صوتها، لأصبحت مثل حال من يعيش بنفسٍ واحدة، تأمره بالسوء في غالب الحال، ويعيش فقط لكي يحقق شهواتها.
أمّا الأخيرة فهي الصديق الونيس، فالنفس المطمئنة تدفع صاحبها لاستشعار النعم وتقديرها، مهما كانت صغيرة في نظر البعض، تجعله يمتن للخالق الوهّاب، وفي حضورها ينشغل عن الملّذات الوهمية الفانية إلى الحياة البسيطة الجادّة.
والرجولة تبدأ من سيطرة المرء على نفسه، وتحكّمه فيها، لأنّ من يعطيها هواها سيصبح عبداً لها. وعبيد النفس من أتباع مدرسة “الحبة الحمراء” و “الرجل الألفا”، وقياداتها أمثال القوّاد المسلم أندرو تيت، لا علاقة لأسلوب حياتهم بمفهوم الرجولة. فمن يتابع أطروحاتهم يجدها تدور حول ضرورة الكدّ لأجل وهب النفس كل ما تهواه، والذي تهواه النفس كما يظهر في صورهم وفيديوهاتهم عبر الشبكات الاجتماعية هي القصور الفخمة، والسيارات الفارهة، والساعات الثمينة، والحفلات والشراب والعاهرات.
وقد حاولت ثم عجزت أن أستوعب فكرة “أحِبْ نفسك” و “تقّبل نفسك”، التي يطرحها الأخصائيون والمعالجون النفسيون. فالعلاقة مع النفس ليست علاقة حب أو تقبّل، بل هي حالة مدافعة مستمرّة، إمّا أن تضبطها وتسيطر عليها وعلى شهواتها، فتغدو سيّد نفسك، وإمّا أن تخضع لها وتجعلها تقودك، فتمضي حياتك عبداً لها. أعتز عندما أستشعر أنني ممسك بها وألجمها، وأشعر بالخجل والانكسار عندما أجد أنني ضعفت وجعلتها تقودني إلى فعل ما لا أعتز به.
صراع المرء الأول في هذه الحياة هو مع نفسه، وليس مع الناس والمجتمع والكون. يمضي حياته متدافعاً مع هذه النفس المتقلّبة، ينتصر عليها مراراً، وتغلبه مراراً، وهذا حال الطبيعة البشرية، فيا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قلبي على دينِك.