عندما نامت الأرض مبسوطة، تأمّلات نخبوي راقي ملكي في ما تعنيه كرة القدم وعشق الأهلي

“لا فاز الأهلي تنام الأرض مبسوطة” هذا ما قاله شاعر الأهلي مساعد الرشيدي رحمه الله، وهو على حق، ولكنه سكت عن وصف حالنا عند الخسارة.

علاقتي مع هذا النادي معقدة، بدأت ليلة التحاقي بالصف الأول الابتدائي، دعاني أخي الأكبر -أطال الله في عمره- لمناقشة مواضيع استراتيجية ذات علاقة بالمدرسة وحياتي القادمة.
أتذكر تلك اللحظات جيداً، في منزلنا بحي الوشحاء بمدينة بالطائف، قبل حوالي أربعين عاماً، أحد أهم بنود ذلك الاجتماع الطارئ كان قراره باختيار فريق كرة قدم لكي أشجعه، قال لي أن الأهلي “فريق الأبطال، قلعة الكؤوس، ألوانه تطابق ألوان المنتخب”، بالإضافة إلى أنّه فريقه المفضل.
في اليوم التالي، وهو أول يوم في حياتي الدراسية، سأل الأستاذ عبدالرحمن الغامدي طلاب الفصل: ماذا تشجعون؟ كنت أول من رفع يده لأجيب “الأهلي”.
مرّت السنوات، واكتشفت أن أخي الأكبر ليس له علاقة بكرة القدم، ولا يتابعها أو يهتم، ربط مصيري الأبدي مع هذا الفريق، واختار لي شغفًا لم أختره.

تعلّقت في حب كرة القدم والأهلي، لعبت مع فريق الفصل ضد الفصول الأخرى، ومع فريق المدرسة في مسابقات مدارس الطائف، ومع عيال الحارة على الإسفلت والأراضي الترابية ضد بعضنا البعض، وضد حواري الطائف الأخرى، أصبحت كرة القدم بالنسبة لي -مثل أقراني- هوايتي الوحيدة ممارسةً ومتابعة.
ما زالت والدتي -أطال الله في عمرها- تذكرني بين حين وآخر، باليوم الذي “أغمي عليّ” فيه بعد خسارة الأهلي في إحدى المباريات، وذاكرتي تصرّ على أن ما حصل هو أنني نمت بعد بكاء طويل.
في اليوم التالي من تلك الحادثة طلبني مدرس الرياضة عبدالعزيز طاشكندي إلى غرفته، كان أبي قد زار المدرسة صباحاً، وتكلم معه عن ما حدث، قال لي المدرس بأن الكرة فوز وخسارة، وأنه يجب ألا أسمح للخسارة بأن تؤثر فيّ بذلك الشكل، واقترح عليّ استبدال الأهلي بتشجيع الاتحاد.
لم أعرف أنه كان سابقاً حارس مرمى في الاتحاد، عدت إلى المنزل لأخبر عائلتي أنني أصبحت اتحادياً، ومع أول خسارة للاتحاد عدت إلى تشجيع الأهلي، وكما يقول إيريك كانتونا “يمكنك تغيير زوجتك، وتوجهاتك السياسية، ودينك. لكنك لن تستطيع أبدًا استبدال فريقك”.

ثم بزغ العصر الذهبي الكروي السعودي، ماجد عبدالله وشايع النفيسة ورفاقهم العظماء، يقودهم الرمز الوطني الكبير خليل الزياني، أدخلونا نحن الجيل المحظوظ عصر الانتصارات الوطنية الكبرى، في عصر فيصل بن فهد فزنا بكأس آسيا 1984، عندما كسر ماجد عبدالله “طقم الصين كله”، تسيّد اسم السعودية عالياً على رأس أكبر قارة، وفجأةً أصبحنا محط الأنظار.
تشرّبنا روح انتصارات الوطن، تيقّنا بأننا لسنا أقل من غيرنا، أصبحت الأحلام مشروعة، النصر ممكن، المجد قريب، والسيادة حق. لم تعد الكويت بعبع، وكأس الخليج لم يعد طموحاً، فنحن أسياد آسيا.
توالت الانتصارات الوطنية، ووصلنا للأولمبياد، وحققنا كأس آسيا مجدداً، وفاز منتخبنا للناشئين بكأس العالم.
نجاحات الوطن قزّمت منافسات الأندية المحلية، غرس فينا المنتخب من الفخر والزهو ما أنسانا أنديتنا ومنافساتها، تهامس الناس أن السرّ كان في “عقال فيصل بن فهد”، الذي كانوا مقتنعين أنه يجلد به اللاعبين متى تقاعسوا، والحقيقة أننا كنا نشهد مرحلة نهوض وطن، وروح وطنية صاعدة في كافة المجالات؛ الجبيل وينبع وسابك وسعودة أرامكو، المطارات والموانئ والمصانع والمشاريع الضخمة، طلال مداح ومحمد عبده وبكر الشدي وغيرهم، هوية سعودية تنافسية جميلة تبلورت أمام أعيننا وعشناها.
كنا نخرج مع والدي بعد كل انتصار وطني كبير إلى الشوارع، ملوحين بأعلام الوطن في جو احتفالي بديع، الأعلام والأهازيج والاحتفالات والتجمعات الكبيرة، ثم الجلوس جانباً في “منتزه الردّف” لمشاهدة استعراض مواكب السيارات.
تلك المرحلة الذهبية عزيزةٌ جداً على قلبي، فهي مرحلة ذكرياتي اللصيقة مع والدي رحمه الله، توفي بعدها بسنوات وسط أزمة احتلال الكويت 1990، وأنا في نهاية المرحلة المتوسطة.

ثم انتقلت إلى أمريكا منتصف التسعينات، كانت الإنترنت في بداياتها، فارق الوقت وعدم وجود طريقة لمشاهدة المباريات خفف كثيراً من حماسي تجاه كرة القدم.
وعندما عدت في 2001، انخرطت في التركيز التام على مجال الأعمال، واستبدلت متابعة كرة القدم بهوايات أخرى مثل القراءة والاهتمام بالشأن العام.
وبدون تخطيط مسبق، تبنيت عادة استمرت معي إلى اليوم؛ وهي مشاهدة مباريات الأهلي فقط، ومباريات المنتخب إذا كانت مهمة، ومباريات نهائي كأس الملك، وبالطبع بطولة كأس العالم.
أما مباريات الفرق الأخرى في البطولات المحلية، ودوريات أوروبا المختلفة، فلا أتذكر أنني سعيت يوماً لمشاهدة مباراة فيها، إلا إن كنت في مقهى عام مع أصدقاء، وعرضوا فيه بالصدفة إحدى المباريات المهمة.
قال لي أحد الأصدقاء عندما علم أنني لا أشاهد إلا مباريات الأهلي، أنني قد أضعت نصف عمري، لأنني فوّت على نفسي الاستمتاع بمشاهدة رحلة ليونيل ميسّي وكريستيانو رونالدو منذ بداياتهم حتى اليوم.
ولكن لا أظنه فاتني أي شيء مهم، ما يهمني في عالم كرة القدم هو شيء واحد؛ الأهلي فقط.

ونحن في الأهلي قد ابتلانا الله بثلاثة منافسين، والحمد لله على كل حال:

أولهم هو الهلال، يشبه الفتى الثري المدلل، ابن العائلة الثرية، التي وفرت له كل أسباب النجاح في صغره، حتى كبر وأصبح الأقوى والأكثر نجاحاً.
بسبب كثرة بطولاته، أصبح جماهيره الأكثر دلالاً، لا يقبلون أن يخسر فريقهم أي مباراة، فضلاً عن أي بطولة، لا يؤمنون بأن الأيام دول، وأن الخسارة شيء طبيعي، وأنه لا عيب في أن يمر فريقهم بمباريات وبطولات ومواسم سيئة، ينهارون عند كل هزيمة مثلما يفعل الفتى المدلل عندما يمر بمشكلة بسيطة، ولا يعرف كيف يتصّرف، يرون أنفسهم وفريقهم فوق العالم، وما يجري على الآخرين ليس من العدل أن يجري عليهم، فتى مدلل طغى وتجبّر، قاده الثراء والدلع إلى أن يرى نفسه فوق الحياة وصروف الدهر.

وثانيهم هو النصر، يشبه ابن عائلة ثرية وفرت له كل أسباب النجاح في صغره، مثل شقيقه الهلال، ولكنه سلك طريقاً غير سوي.
بين حين وآخر يعود إلى رشده وينضبط، وكلما شعر أهله ومحبوه أنه تاب وصلح حاله، وعاد إلى الدراسة والتركيز، وحقق النجاح، فإذا به ينتكس مجدداً، وينكّد عليهم حياتهم. لا يمكن للنصراوي التنفس بدون الشعور المظلومية، إن تنفّس فإنّه يشعر بأن الأوكسجين الذي يستنشقه فيه غش، يؤمن النصراوي أن عائلته الثرية تحب وتفضل شقيقه الآخر عليه، وتتملكه مرارة الغيرة من شقيقه المدلل.

وثالثهم هو الاتحاد: كادح ابن عائلة كادحة، أصبح ثرياً وناجحاً بعد أن تبناه كبار تجار المنطقة، خرج من الحارة والكدح ومنطقة الفقر، وأصبح منافساً حقيقياً للكبار، ولكنه ما زال يفكر ويتصرف بعقلية الحواري والمشاكل.
يعاني الاتحاد من عقدة نقص مريرة أمام الأهلي، لا يغفر ولا ينسى أيام الفقر التي كان فيها جاره ثرياً ومهيمناً، أطلق على نفسه “فريق الشعب”، ثم “فريق الوطن”، وكأن باقي الفرق وجماهيرها من كوكب المريخ.

أما نحن في الأهلي، فقد كان فريقنا يوماً مثل الهلال والنصر، ثري مدلل ابن عائلة ثرية، وفرت له كل أسباب النجاح في صغره، ومن ثم حقق النجاح لعقود، ثم جارت عليه الحياة، وتبدلت الأيام.
مات الكبار، ودخلت المشاكل بين الأبناء، أضاعوا ثروتهم، وتفرّقت قوتهم، وحصل كل ذلك من سوء الحظ في وقت صعود الخصوم، الذين استبدوا بالبطولات خلال الثلاثين عاماً الماضية (الهلال 51 بطولة، الاتحاد 22، النصر 12، الأهلي 11)، ونحن غارقون في مشاكلنا الداخلية، وبعكس جارنا الاتحاد الذي كان كادحاً، وأصبح من الأثرياء، نزلنا نحن من طبقة الأثرياء إلى الكادحين، ودخلنا فترة شتاء الأهلي.

لا تدوم الدنيا لأحد، تدور الأيام وتتبدل، وما طار طير إلا وقع، ولكن شتاء الأهلي طال وأتعبنا، وفي الوقت الذي كنّا نتلمّس طريق عودتنا إلى القمة، كتب الله علينا الهبوط إلى الدرجة الأولى (دوري يلو).
إذا كان عمرو بن لحي هو أول من أدخل الأصنام إلى جزيرة العرب، وخُلِّد اسمه في التاريخ، فيجب تخليد أسماء الذي تسببوا في نازلة الهبوط تلك، وقد كانوا:
رئيس النادي ماجد النفيعي
والمدير التنفيذي موسى المحياني
وخلفهم من كان يوفر لهم الدعم والحماية للاستمرار، حتى حققوا هدفه بجعل الأهلي يهبط.
وفّر لهما الحماية المطلقة أمام كل مطالبات وضغط الجماهير عليهم بالاستقالة والتنحي، وبعد أن هبط الأهلي تم قبول استقالتهم.

لا أبالغ إن قلت أن ليلة الهبوط كانت من أسوأ الليالي في حياتي.
علاقة المرء مع فريقه هي جزء من هويته، جزء من شخصيته، جزء من ذكريات طفولته ومراهقته وصداقاته وأحلامه.
تتكون هوية الفرد من عناصر مختلفة، هويتي مثلاً هي مزيج من: إنسان كمخلوق، مسلم كدين، عربي كأصل، سعودي كوطن، غامدي كقبيلة، حجازي كإقامة، طلالي الهوى كذوق فنّي، رائد أعمال كمهنة، قارئ كهواية، أهلاوي كرياضي، إلخ…
هذه العناصر مجتمعةً صنعت شخصيتي، وهي جزء منها، ومن ثم أنا متعلّق وفخور بها، وأحب وأميل إلى من يشاركني هذه العناصر.
وعندما تتعرض أحدها للإهانة، أشعر بأن الإهانة شخصية، إذا كان ذلك العنصر في مرتبة عالية لديّ من ناحية التقدير.
إذا تعرض ديني للإهانة، فإننّي أستشعر تلك الإهانة بشكل شخصي، وربما أتصرّف بعنف إذا كان موجه الإهانة أمامي، أعداء ديني هم أعدائي.
الشيء نفسه، ولكن بدرجة أقل إن وجهت الإهانة إلى وطني وقبيلتي ومنطقتي، فهي عناصر أساسية مكونة لهويتي، ومن يعاديها أصبح عدواً شخصياً.
ربما لا أكترث كثيراً عندما يسخر أحد من مهنتي كرائد أعمال، أو من ذوقي الفني المتمحور حول طلال مداح، أو هوايتي كقارئ، ولكنها تبقى أجزاء من هويتي، وأجد نفسي محباً وقريباً من رواد الأعمال ومحبي الكتب والقراءة وجماهير طلال مداح.
ما لا يفهمه البعيدون عن عالم كرة القدم، هو أن فرقنا التي نتابعها هي جزء من هويتنا، تعلقنا بها مبكراً في العمر، ولا يمكننا تغييرها بإرادتنا أو محوها.
وعندما هبط الأهلي، شعرت بالإهانة الشخصية، وأتذكر أنني حجبت كل الكلمات ذات العلاقة بالأهلي والمنافسين وكرة القدم في تويتر، حتى لا تظهر لي تغريدة ساخرة، وألغيت متابعة كل من زاد في الوجع بكتابة شيء ساخر.

عندما نتابع ونشجع فريقنا، نحن نتتبع مسيرة أحلامنا معه، نجاح فريقنا هو نجاح جزء من شخصيتنا، عندما ينتصر فإنه يشعرنا بأننا في مرتبة واحدة مع جماهير الفرق المنافسة، لا نقل عنهم في شيء، انتصارات فريقنا تعوض بعض خسائرنا في مسيرتنا اليومية مع هذه الحياة، تداوي جراحنا وخيباتنا، أغلبنا “مكروف” و"ماكل تبن" في حياته، ومن حقنا أن نهرب من هزائمنا في الواقع بالبحث عن مواطن فرح بسيطة عبر أمور مثل هذه، وهذا أمر لا يفهمه ولا يصدقه وربما يستكبره المحظوظين ممن لم يشجع فريقاً في صغره.
هذه العلاقة المعقدة جعلتني أبعد أبنائي عن متابعة كرة القدم منذ صغرهم، والحمد لله أنني نجحت في ذلك، فمن الأفضل أن لا يدخل في تشكيل هوية الفرد عنصر عالم كرة القدم المتعصب المجنون.

عندما فاز الأهلي في الأسبوع الماضي ببطولة دوري أبطال آسيا للنخبة، كان الفوز بمثابة مصالحة جميلة مع ماضٍ موجع، كانت بالفعل جبراً للخاطر، تعويضاً عن شتاء طويل وهبوط مقصود، فوز انتزعناه باستحقاق مطلق، انتصار تاريخي أكّد بأن الرمز على حق عندما أمر بأن “جدة كذا، أهلي وبحر”، وأننا “كبار جدة العروس”، أشعرنا حقاً أن “الأرض نامت مبسوطة”..

لك العهد والعشق والانتماء..
وخلفك نمضي صباح مساء..
لتبقى مجيداً وفخراً وعيداً..
وصرحاً فريداً يطال السماء..
أيا قلعة المجد والمجد أهلي..
أيا قلعة الفن والفن أهلي..
سفير الوطن شموخ وفن..
وعبر الزمان سنمضي معا..