تخطى الى المحتوى

مآسي الحروب وحزن الأمهات، من روائع سفيتلانا أليكسييفيتش

فؤاد الفرحان
فؤاد الفرحان
مآسي الحروب وحزن الأمهات، من روائع سفيتلانا أليكسييفيتش

الحروب مهلكة، وليس هناك حزن يعلو الحزن الذي يتملك أم عندما يصلها خبر مقتل ابنها في حرب ظالمة لا يكون لمقتله فيها معنى ومنطق.
هذا المقطع المؤثر من كتاب "فتيان الزنك" للكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكيسيفيش (الحائزة على جائزة نوبل للأداب) هو شهادة أم روسية تحكي لوعتها وأساها على مقتل ابنها المجند في أفغانستان أيام غزو الاتحاد السوفيتي. فتيان الزنك كتاب رائع بالفعل وهو ثاني كتاب اقرأه لسفيتلانا بعد كتابها البديع الأخر "صلاة تشرنوبل".
هذا النص الأدبي البديع يمثل برأيي حزن كثير من الأمهات الثكلى اللاتي فقدن فلذات أكبادهن في مهالك الحروب. إلى النص:

أنت تُهرع إلى المقبرة كما لو كنت على موعد هناك...
في الأيام الأولى قضيت الليالي هناك، ولم أخف. أنا الآن أفهم جدَّاً تحليق الطيور وكيف تنمو الأعشاب. في الربيع أنتظر موعد ظهور برعم الزهرة من التربة متمايلاً نحوي. فقد غرست هناك الزهور اللبنية الثلجية بغية أن أتلقَّى بسرعة التحيَّة من ولدي. إنها تنبجس من هناك صاعدةً نحوي... بتحيَّة منه.

أجلس بالقرب منه حتى المساء، وحتى الليل. وأحياناً أصرخ بشدة، وأنا لا أسمع حتى أرى صعود الطيور في الجو. موجة من الغربان، تدور وتصطفق أجنحتها فوقي، فأثوب إلى رشدي، وأكفُّ عن الصراخ. أزوره في كل يوم منذ أربعة أعوام كاملة. في الصباح أو في المساء. لم أزره فترة أحد عشر يوماً رقدت فيها في الفراش بعد إصابتي بالاحتشاء القلبي، لم يسمح لي الأطبَّاء بالنهوض. ونهضت ومشيت بهدوء إلى المرحاض. معنى ذلك أنني أستطيع الوصول إلى ولدي، وأسقط كما لو أنني أسقط فوق قبره. هربت برداء المستشفى.
قبل هذا راودني حلم.

-«ماموتشكا، لا تأتي غداً إلى المقبرة. لا حاجة إلى ذلك».
وأتيت: هدوء مطبق، كما لا وجود له هناك. وأحسُّ في قلبي – لا وجود له هناك. تربض الغربان فوق النصب والسياج ولا تطير، ولا تبتعد بسببي كالعادة. نهضت من المصطبة، فإذا بها تحلِّق حولي، بغية تهدئتي. ولا تسمح لي بالانصراف. ما القضية؟ ممَّ تريد تحذيري؟ وفجأت هدأت الطيور، وصعدت إلى الأشجار. اقتربت من القبر، فغمرت روحي الطمأنينة، وزالت مخاوفي. لقد عادت روحه. «شكراً لطيوري، التي حذَّرتني ولم تسمح لي بالانصراف. وبهذا انتظرت عودة ولدي...». أنا أشعر بوطأة حضور الآخرين، وأمشي وتغمرني الوحشة والتوحُّد. يتوجَّهون إليَّ بأحاديث ما، إنهم يزعجونني، ويعيقونني... أما هناك فأنا بخير. إن حالتي تكون جيّدة فقط عند ولدي. يمكن أن تجديني إما في مكان العمل وإما هناك. هناك، عند القبر... يبدو كما لو أن ولدي يعيش هناك. وقد حدَّدت مكان رأسه... فأجلس بالقرب منه وأحدِّثه بكل شيء... كيف كانت الأمور في الصباح، وكيف اليوم... نحن – أنا وهو – نستعيد الذكريات سوية... أنظر إلى الصورة، أنظر إليها ملياً، ولفترة طويلة... إنه إما يبتسم قليلاً أو غير راض عن شيء ما، ويعبس. هكذا أحيا معه. وإذا اشتريت فستاناً جديدًا فأنا أشتريه فقط من أجل زيارة ولدي لكي يراني فيه... سابقاً كان يجثو أمامي على ركبتيه ويقول: «يا أماه. يا حسنائي!». الآن أنا أمامه. أفتح باب السياج وأجثو على ركبتي وأقول:

  • «صباح الخير يا ولدي... مساء الخير يا ولدي...».
    أنا دائماً معه. أردت أن أتبنَّى صبيَّاً من دار اليتامى... صبياً واسع العينين مثله. لكنني شعرت بوخز في قلبي. لم يتحمَّل قلبي. أنا أحشر نفسي في مكان عملي كما لو كنت أحشرها في نفق مظلم، وأُصاب بالجنون إذا ما وجدت الوقت للجلوس في المطبخ والتطلُّع من النافذة. ولا يمكن أن تنقذني سوى أوجاعي. لم أذهب إلى السينما مرة واحدة خلال الأعوام الأربعة هذه، وبعت التلفزيون الملوَّن، وأنفقت النقود لإقامة النصب على القبر. لم أستمع إلى الراديو مرة واحدة. ما أن لقي ولدي مصرعه تغير كل شيء فيَّ: الوجه والعينان وحتى اليدان.

تزوَّجت بمثل هذا الحب! زوجي طيَّار، طويل القامة، وسيم. كان يرتدي سترة جلدية وجزمة فرو دب. هل سيكون هذا الرجل زوجي؟! ستُذهل البنات. أدخل المتجر، ولا أدري لماذا لا تنتج صناعتنا الأحذية ذوات الكعوب العالية؟ فأنا إلى جانبه قصيرة. وتمنَّيت لو أُصيب بمرض وسعال، وأن يصيبه الزكام، عندئذ سيبقى طوال اليوم في البيت، وسأرعاه. ورغبت جداً في أن يكون لي ولد. ابن سيكون مثله. بمثل هاتين العينين والأذنين والأنف. وبدا كما لو أن أحداً ما أصغى في السماء إلى دعائي. لقد وُلد ابني شبيهاً به، قطرة في قطرة. ولم أستطع تصديق أن هذين الرجلين الرائعين هما لي. لم أستطع تصديق ذلك! أحببت البيت. أحببت الغسيل وكي الملابس. لقد أحببت كل شيء حتى كنت لا أدعس على العنكبوت بقدمي، وأمسك الذبابة والدعسوقة في البيت وأطلقهما من النافذة. لتعش جميعها، وتحب بعضها البعض. كم كنت سعيدة! وعندما أعود من العمل أو من المخزن أدق جرس الباب، وأنير المصباح في المدخل، لكي يرى ولدي كم أنا فرحة:

  • «ليرونكا (هكذا كنت أدعوه في الطفولة)، هذه أنا. لقد اشتقت إليك!».

أحببت ولدي حبَّاً جمَّاً وما أزال أحبُّه الآن. جلبوا لي الصور الفوتوغرافية لموكب الجنازة... فلم آخذها. أنا لم أصدِّق بعد وفاته... أنا كلب وفي، من تلك الكلاب التي تموت على القبور. كما أنني كنت صديقة وفية دائماً. الحليب يتدفَّق من ثدييَّ، اتفقت على لقاء صديقتي لأعطيها كتاباً. ووقفت أنتظرها في الزمهرير ساعة ونصف الساعة، لكنها لم تأتِ. الإنسان لا يمكن ألا يأتي فحسب، ما دام قد وعد بالمجيء، لا بد من أن شيئاً طارئاً قد حدث. فهُرعت إلى بيتها، ووجدتها نائمة. ولم تستطع أن تفهم سبب بكائي. أنا أحببتها أيضاً، وأهديتها فستاني المفضل – الأزرق. هكذا أنا. انخرطت في خضم الحياة ببطء، وبوداعة. البعض أكثر جرأة. ولم أصدِّق بأنه يمكن أن يحبَّني أحد ما. وقيل لي: حسناء، فلم أصدِّقهم. لقد مضيت متأخرة عن مسيرة الحياة. لكن إذا تذكَّرت أمراً ما، وحفظته، فهذا يبقى طوال الحياة، إلى الأبد، وكل ذلك ببهجة. عندما حلَّق يوري غاغارين في الفضاء اندفعت مع ليرونكا إلى الشارع. أردت في هذه اللحظة أن أحب الجميع... وأعانق الجميع... وهتفنا بصوت عال من الفرح.

لقد أحببت ولدي بجنون. بجنون. كما أحبَّني هو حبَّا جمَّاً. القبر يجذبني إليه. ويدعوني. كما لو كان يرد على دعوتي.
سألوه:

  • «هل لديك فتاة؟».
    فأجاب:
  • «نعم». ويبرز هويتي الطلابية حيث أبدو فيها بضفيرتين طويلتين.

كان يهوى رقصة الفالس. ودعاني إلى أول رقصة فالس له في المدرسة في حفلة التخرُّج. وأنا لم أعرف أنه يجيد الرقص، وتعلَّم ذلك. فأخذنا ندور ونلفُّ في حلقة الرقص.
أجلس عند النافذة في المساء وأبدأ بالحياكة، وأنتظره. خطوات... لا، ليس هو. ثم أسمع خطواته، خطوات ولدي! أنا لم أخطئ ولو مرة واحدة أبداً. نجلس قبالة أحدنا الآخر ونتبادل الأحاديث حتى الرابعة فجراً. عن أي شيء؟ عمَّ يتحدَّث الناس حينما يكون مزاجهم رائق؟ عن كل شيء، عن الأمور الجدية والتافهة. ونستغرق في القهقهة. وهو يغنِّي ويعزف على البيانو.
أتطلَّع إلى الساعة:

  • «فاليرا، حان وقت النوم».
  • «دعينا يا ماتوشكا نجلس أكثر».
    كان يدعوني: ماما، ماما الذهبية.

وهكذا، يا ماما الذهبية، التحق ولدي بالكلية العسكرية العليا في سمولينسك. هل أنا مسرورة؟!
جلس وراء البيانو وأنشد:
أيُّها السادة الضبَّاط – الأمراء الزرق!
أنا، ربَّما، لستُ الأوَّل،
ولستُ الأخير...

والدي ضابط محترف، قُتل دفاعاً عن لينينغراد. وجدِّي كان ضابطاً. أما ولدي فقد أعدَّته الطبيعة نفسها ليكون رجلاً عسكرياً: القامة، القوَّة، أسلوب التعامل. كان يجب أن ينضمَّ إلى سلك الفرسان! القفَّازات البيضاء، أوراق القمار، البريفرانس... وأقنعت نفسي بالقول: «أنت نجمتي العسكرية». لو أنزلت إلينا السماء الربانية شيئاً ما، ولاحت إشارة...
كان الجميع يقلِّدونه. وأنا، أمه، كنت أقلِّده أيضاً. كنت أجلس مثله عند آلة البيانو، وأعزف لحناً ما بصوت خافت. وأحياناً كنت أمشي مثله. بالأخص بعد مصرعه. أريد أن يبقى معي دائماً... وأن يواصل العيش...

  • «إذاً، يا ماما الذهبية، إن ولدك مسافر».
  • «إلى أين؟».
    صمت. بينما جلست وذرفت الدموع:
  • «ولدي العزيز إلى أين أنت ذاهب؟».
    معنى ذلك إلى هناك؟ يعرف إلى أين.
  • «ماما إلى العمل. لنبدأ من المطبخ... سيأتي الأصدقاء».
    وفي لحظة خاطفة حدست:
  • «إلى أفغانستان؟».
  • «نعم إلى هناك...»، وبانت على وجهه ملامح العزم، ونزل الستار الحديدي.

جاء إلى البيت صديقه كولكا رومانوف. وروى كل شيء كجرس صغير: لقد قدَّموا منذ العام الدراسي الثالث طلباً لإرسالهم إلى أفغانستان. ورفض المسؤولون طلبهم لمدة طويلة.
أول نخب: من لا يغامر لا يستحق شرب الشمبانيا. وفي المساء كله ردَّد فاليرا أغنياتي العاطفية المفضلة:
أيُّها السادة الضبَّاط – الأمراء الزرق!
أنا، ربَّما، لستُ الأوَّل،
ولستُ الأخير...

بقيت أربعة أسابيع. وفي الصباح كنت أدخل إلى غرفته قبل التوجُّه إلى العمل، فأجلس وأصغي إلى كيف ينام. كان ينام ببهاء أيضاً.
كيف دق القدر بابنا، كما تنبأت! رأيت في الحلم: أنا فوق صليب أسود وبرداء طويل أسود... ويحملني ملاك على الصليب... وأنا أرى بصعوبة. أردت أن أعرف أين سأسقط. في البحر أم في البر؟ أرى تحتي حفرة يغمرها نور الشمس...

انتظرته في فترة الإجازة. رن جرس الهاتف في العمل:

  • «أمِّي الذهبية، أنا وصلت. لا تتأخري. الحساء جاهز».
    فصحت:
  • «ولدي، ولدي العزيز! لست تتصل من طشقند؟ بل من البيت! في الثلاجة يوجد قدْر حساء البورش المحبب لديك»!
  • «أوه، رأيت القِدْر لكن لم أرفع الغطاء».
  • «وأنت أي حساء لديك؟».
  • «حساء: حلم الأبله! تعالي. سأستقبلك عند موقف الحافلات».

رجع وقد غمر الشيب شعر رأسه. لم يعترف بأنه لم يأت في إجازة، بل طلب السماح له بالسفر من المستشفى العسكري: «أريد رؤية أمِّي لمدَّة يومين». صار يتقلَّب على السجَّاد ويصرخ من الألم. التهاب الكبد، الملاريا – لقد أُصيب بعدَّة أمراض مرَّة واحدة. وحذَّر شقيقته قائلاً:

  • «ما شاهدتِه الآن، يجب ألا تشاهده ماما. اذهبي، طالعي كتابك».

مرة أخرى كنت أدخل إلى غرفته قبل الذهاب إلى العمل، من أجل أن أرى كيف ينام. ففتح عينيه:

  • «ما الأمر، يا أمِّي؟».
  • «لماذا لا تنام؟ ما زال الوقت مبكِّراً».
  • «شاهدت حلماً سيِّئاً».
  • «يا ولدي، إذا كان سيِّئاً، فيجب أن تتقلَّب في الفراش، وسترى حلماً جميلاً. ويجب ألا تردِّد الكلمات السيِّئة، وعندئذ لن تتحقَّق».
    ودَّعناه إلى موسكو. كان ذلك في أحد أيام مايو المشمسة. وقد تفتَّحت زهور الحب.
  • «كيف الأمور، هناك؟».
  • «أفغانستان، يا أمِّي، هو ما لا يجب أن نفعله».
    كان ينظر إليَّ فقط، ولا ينظر إلى أي أحد آخر.ومدَّ يديه، ومسح العرق من جبينه:
  • «أنا لا أريد الذهاب إلى هذه الحفرة! لا أريد». وانطلق. والتفت، «هذا كل ما في الأمر يا أماه».
    لم يكن يتلفَّظ بكلمة "ماما" أبداً، كان يقول دوما "يا أمَّاه". يوم مشمس رائع. وتفتَّحت زهور الحب... الموظَّفة المناوبة في المطار تطلَّعت إلينا وذرفت الدموع...
    في 7 يوليو استيقظت غارقة في دموعي، وحدَّقت في السقف بعينين زجاجيتين. لقد أيقظني هو... كما لو جاء لتوديعي. في الساعة الثامنة. يجب التهيُّؤ للذهاب إلى العمل، وأخذت أهرول بالفستان من الحمَّام إلى الغرفة، ومن الغرفة إلى الغرفة الأخرى... لسببٍ ما أنا لا أستطيع ارتداء الفستان الفاتح اللون. وأُصبت بدوار في رأسي... لم أر شيئاً. لقد صار كل شيء يعوم أمام عيني... وفي فترة الغداء عاد إليَّ الهدوء، في منتصف النهار...
    في 7 يوليو.. سبع سجائر في الجيب وسبعة أعواد ثقاب، وسبعة صور التقطت في آلة التصوير، وسبع رسائل موجهة إليَّ. وسبع رسائل موجَّهة إلى خطيبته. وكتاب فتح عند الصفحة السابعة... كوبو آبي "أوعية الموت".
    كانت لديه ثلاث أو أربع ثوان لكي ينقذ نفسه! كانت مروحيتهم تنحدر نحو الهاوية....
  • «يا شباب أنقذوا أنفسكم! وأنا سأموت!». لم يكن في استطاعته الهبوط قبل الآخرين، والتخلِّي عن الأصدقاء... ما كان في وسعه القيام بذلك.
    يكتب لك الرائد س. ر. سينيلنيكوف نائب قائد الكتيبة لشؤون التوعية السياسية في الوحدة العسكرية:
    "أنا أؤدِّي واجبي كجندي، أرى من الضرورة إبلاغك بأن الملازم أول فاليري غيناديفتش فولوفيتش استشهد اليوم في الساعة العاشرة والدقيقة الأربعين...".

لقد عرفت بالأمر المدينة بأجمعها... في نادي الضباط عُلِّقت صورته محاطة بشريط أسود. كانت الطائرة التي تحمل نعشه على وشك الهبوط في المطار. لا يوجد لديَّ ما أقوله... ولا يتجاسر أحد على الكلام. وفي مكان عملي كان الجميع يذرفون الدموع.

  • «ماذا حدث؟».
    كانوا يلهونني بمختلف الوسائل. ظهرت عند الباب صديقتي. ثم طبيبنا بسترته البيضاء. بينما أنا في إغفاءة كنت أقول:
  • «يا ناس! هل جننتم؟ إن أمثاله لا يُقتلون! لا!». وأخذت أطرق المنضدة بقبضتي. وانطلقت نحو النافذة، ودققت على الزجاج.
    حُقنت بإبرة.
  • «يا ناس! هل جننتم؟ هل فقدتم عقولكم؟!».
    وحقنت بإبرة أخرى. لم تؤثِّر فيَّ الحقن البتة. كانوا يتحدَّثون، بينما أصرخ أنا:
  • «أريد رؤيته. خذوني إلى ولدي».
  • «خذوها وإلا فإنها لن تتحمَّل».

تابوت طويل، لم تصقل ألواحه... وكُتب عليه بطلاء أصفر: "فولوفيتش". رفعت التابوت. أردت أن آخذه معي. وانفجرت مثانتي...
يجب تحديد مكان في المقبرة... مكان جاف. جاف! يجب دفع خمسين روبلاً! سأدفع، سأدفع. بشرط أن يكون المكان جيِّداً... جافاً. إذا ما تطلَّب الأمر فسأدفع كل ما يلزم! في الليالي الأولى لم أبتعد عنه... وبقيت هناك. يقتادونني إلى البيت فأعود مرة أخرى. جرى حصد العشب... وغمرت المدينة والمقبرة رائحة العشب...
في الصباح التقيتُ جندياً:

  • «مرحبا، يا أم. كان ولدك قائدي. أنا مستعدُّ لأن أحدِّثك بكل شيء».
    جئنا إلى البيت. جلس في مقعد ولدي. بادر في الكلام ثمَّ توقَّف:
  • «لا أستطيع، يا أم...».

أزوره في المقبرة فأجثو راكعة، وحين أنصرف أجثو مرة أخرى. وأبقى في البيت فقط حين يكون لديَّ زوّار. أشعر بالراحة إلى جانب ولدي. وأنا لا أبالي بالزمهرير هناك. وهناك أكتب رسائل إليه، ولديَّ تل من الرسائل المتبقية بلا إرسال. وكيف أبعثها إليه؟ أعود في الليل: المصابيح تنير، السيَّارات تمضي بمصابيح مضاءة. أعود مشياً على الأقدام، وتكمن فيَّ قوة تجعلني لا أخاف أحداً: لا الوحش، ولا الإنسان.

تتردَّد في أذني أقوال ولدي: «أنا لا أريد الذهاب إلى تلك الحفرة! لا أريد!». من يُحاسب عن هذا؟ يجب أن يُحاسب أحد ما... أريد أن أعيش طويلاً، وسأسعى إلى ذلك. أعيش من أجل أن أكون مع ولدي. إن القبر هو أكثر الأماكن خلواً من الأمان بالنسبة إلى الإنسان. وكذلك اسمه. أنا أدافع عن ولدي دائماً... يأتي إليه رفاقه.. وجثا صديق له على ركبتيه وقال: «فاليرا، أنا ملطَّخ بالدم... وبهاتين اليدين قتلت. ولم أترك المعارك... أنا ملطخ بالدم... فاليرا أنا الآن لا أعلم، ما هو الأفضل؟ أن أُقتل أم أبقى على قيد الحياة؟ أنا الآن لا أعرف...». أريد أن أعرف من سيُحاسَب عن هذا كله؟ لماذا لا تُذكر أسماؤهم؟
كيف أنشد:
أيُّها السادة الضبَّاط – الأمراء الزرق!
أنا، ربَّما، لستُ الأوَّل،
ولستُ الأخير...

تردَّدت على الكنيسة، وتحدثَّت مع القس.

  • «لقد قُتل ولدي. ولدي الحبيب الرائع. كيف ينبغي أن يكون سلوكي معه الآن؟ وما هي عاداتنا الروسية؟ نحن نسيناها. أريد أن أعرف».
  • «هل هو مُعمَّد؟».
  • «أبتِ، بودِّي جداً أن أقول إنه مُعمَّد لكن لا يجوز ذلك. أنا كنت زوجة ضابط شاب. وعشنا في كامتشاتكا. تحت الثلوج الدائمة... في بيوت تحت الأرض تغطيها الثلوج... الثلج عندنا هنا أبيض، وهناك أزرق وأخضر وصدفي. إنه لا يتألق ولا يغشي العيون. فضاء نقي... والصوت يمضي طويلاً... أتفهمني، يا أبتِ؟».
  • «الأم فكتوريا، إنه أمر سيئ، إذا لم يُعمَّد فصلواتنا لا تصل إليه».
    فانفجرت قائلة:
  • «سأعمِّده الآن! بمحبتي وبآلامي. سأعمِّده عبر الآلام».
    فأمسك القس بيدي. كانت ترتجف:
  • «الأم فكتوريا لا يجوز القلق هكذا. كم مرَّة تزورين ولدك؟».
  • «أنا أزوره في كل يوم. وكيف لا أزوره؟ لو عاش لكنا نلتقي يومياً».
  • «يا أم لا يجوز إزعاجه بعد الساعة الخامسة مساء. فإنهم يرقدون نائمين».
  • «أنا أبقى في العمل حتى الساعة الخامسة، وبعد ذلك أعمل من أجل كسب إضافي. لقد شيَّدت نصباً جديداً له... وأنفقت ألفين وخمسمئة روبل... يجب وفاء الديون».
  • «اسمعي أيتها الأم فكتوريا، في أيام العطلة الأسبوعية وفي كل يوم تعالي حتماً لحضور القدَّاس – في الساعة الثانية عشرة ظهراً. وعندئذ سيستمع إليك».
    أعاني من الأوجاع، أكثرها حزناً، أكثرها لا يُطاق، بشرط فقط أن تصل صلواتي إليه. حبيبي...

-أم


تدوينات أخرى

للأعضاء عام

لا يوجد نقصاً في أعداد المشاركين بتعليق المشانق!

قررت يوماً -بكامل إرادتي وقواي العقلية- أن أتنازل عن حقي الأصيل في الحديث حول الأمور والتجارب التي لا تعجبني، تركت هذه المهمة في السوشل ميديا إلى باقي البشر هناك، وقد كان أحد أجمل القرارات الشخصية.

لا يوجد نقصاً في أعداد المشاركين بتعليق المشانق!
للأعضاء عام

في حب أبحر، ولماذا لم أنتقل إلى الرياض!

بنيت منزلي في "أبحر" قبل 12 عاماً، اخترت قطعة أرض قريبة من أطول برج في العالم، تعثّر البرج، وأظنه مات، ولكن جمال الحيّ ازداد مع السنوات

في حب أبحر، ولماذا لم أنتقل إلى الرياض!
للأعضاء عام

أفضل جهاز للقراءة الالكترونية لم يعد الكندل، أهلاً بالأنيق Palma

اعتدت كل عام أن أهدي نفسي شيئاً ما مميزاً في عيد رمضان، وهذا العام كنت محظوظاً بشدة عندما اشتريت هذا الجهاز البديع.

أفضل جهاز للقراءة الالكترونية لم يعد الكندل، أهلاً بالأنيق Palma